رغم أن مساحة الفاتيكان في قلب روما لا تتجاوز 0.44 كم مربع، أي أنها أصغر من مساحة البلدة القديمة في القدس البالغة 0.9 كيلومتر مربع، إلا أنه يُعد أحد أكثر الكيانات نفوذًا على الساحة العالمية، ليس فقط من الناحية الدينية بل أيضًا من حيث النفوذ الاقتصادي. فمنذ نشأة دولة الفاتيكان بموجب اتفاقية لاتران عام 1929، حافظ هذا الكيان الصغير على هالة من الغموض المالي جعلت الكثيرين يتساءلون: ما حجم ثروته؟ وما مصادر دخله؟ وكيف يوظّف البابا سلطته الروحية في إدارة منظومة مالية بهذا التعقيد؟
تستمد دولة الفاتيكان قوتها الاقتصادية من مزيج فريد يجمع بين الإرث التاريخي، والمكانة الروحية، والعلاقات الدبلوماسية، إلى جانب شبكة عالمية من التبرعات والاستثمارات والعقارات. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الفاتيكاني لا يُقاس وفق المعايير التقليدية، إلا أن تأثيره المالي العالمي لا يمكن إنكاره.
ومنذ بداية عهده البابوي، أطلق البابا الراحل فرنسيس، حملة لإصلاح الجهاز الاقتصادي للفاتيكان، بهدف تعزيز الشفافية ومحاربة الفساد، لا سيما بعد سلسلة فضائح مالية هزت أروقة الكنيسة في العقود الأخيرة.

إرث عقاري وفني مذهل
من أبرز أوجه ثروة الفاتيكان هي ممتلكاته العقارية، التي تشمل آلاف الوحدات السكنية والمباني التجارية، ليس فقط داخل إيطاليا، بل أيضًا في لندن وباريس وسويسرا. وفقًا لتقرير نشره الفاتيكان نفسه عام 2021، فإن الكرسي الرسولي يمتلك أكثر من 5000 عقار، منها 4051 في إيطاليا وحدها. ووفقًا لصحيفة Financial Times، تدر هذه العقارات دخلًا سنويًا كبيرًا من الإيجارات، وتُدار حاليًا من قبل إدارة التراث العقاري (APSA)، وهي هيئة مالية تابعة للفاتيكان.
لكن الثروة العقارية لا تقتصر على العقارات المؤجرة، بل تشمل أيضًا أصولًا لا تُقدّر بثمن، موجودة في كاتدرائية القديس بطرس، ومتاحف الفاتيكان التي تضم تحفًا وتماثيل ولوحات فنية نادرة لمايكل أنجلو ورافائيل وكارافاجيو. هذه المتاحف وحدها، التي يزورها أكثر من 6 ملايين سائح سنويًا، توفر إيرادات تتراوح بين 80 و100 مليون يورو سنويًا من رسوم الدخول والمبيعات داخلها، بحسب صحيفة ذاغارديان.
الاستثمارات المالية وبنك الفاتيكان
تُعرف الذراع المصرفية للفاتيكان باسم “معهد الأعمال الدينية” (IOR)، وقد تأسس عام 1942. رغم أن هذا البنك ليس مصرفًا تجاريًا تقليديًا، إلا أنه يدير حسابات لرجال دين، ومؤسسات كنسية، وسفارات الفاتيكان حول العالم، ويستثمر أمواله في أسواق المال الدولية. وتفيد التقارير أن إجمالي أصوله المدارة يقارب 5 مليارات يورو.
مع ذلك، عانى البنك من اتهامات بالفساد وغسيل الأموال لعقود، مما دفع البابا فرنسيس إلى إطلاق إصلاحات غير مسبوقة منذ عام 2013. إذ تم تعيين مدققين خارجيين، وإغلاق أكثر من 5000 حساب مشبوه، وإنشاء هيئة إشراف مالي للفاتيكان (ASIF) تخضع للمعايير الدولية لمكافحة الجرائم المالية. ووفقًا تقرير الهيئة المالية الأوروبية Moneyval، أحرز الفاتيكان تقدمًا ملموسًا نحو الشفافية المالية في السنوات الأخيرة.

التبرعات والتحديات الأخلاقية
تبرعات المؤمنين، المعروفة باسم “فلس بطرس” (Peter’s Pence)، تمثل مصدر دخل حيوي لدولة الفاتيكان. يُرسل الكاثوليك حول العالم مساهماتهم السنوية لدعم أعمال البابا الخيرية والإدارية، والتي بلغت عام 2021 نحو 50 مليون يورو، بحسب صحيفة La Croix International.
إلا أن فضائح سابقة تعلقت باستخدام هذه التبرعات في استثمارات شابها الفساد، مثل إنفاق 412 مليون دولار من أموال الكنيسة على صفقة فاشلة لشراء عقار في تشيلسي تكبدت بموجبه الكنيسة خسائر فادحة. وقد أدين الكاردينال جيوفاني أنجيلو بيتشيو، الذي كان في السابق أحد أقوى الشخصيات في الكنيسة الكاثوليكية ومسؤولًا عن التبرعات في الأمانة العامة للفاتيكان، بالاختلاس والاحتيال عام 2023 من قبل محكمة الفاتيكان الجنائية، وحُكِم عليه بالسجن خمس سنوات ونصف، عُلِق تنفيذها حتى استكمال الإجراءات الاستئنافية.
الهيكل الإداري والميزانية
تُدار ميزانية الفاتيكان من خلال أمانة الاقتصاد، التي أنشأها البابا فرنسيس عام 2014، وأسند إدارتها سابقًا إلى الكاردينال الأسترالي جورج بيل، بهدف إعادة ضبط الإنفاق.
وقد بلغ العجز المالي في الميزانية لعام 2020 نحو 66 مليون يورو نتيجة تداعيات جائحة كورونا، لكنه تراجع لاحقًا مع تقليص المصاريف وتعزيز الرقابة. في ميزانية 2023،بلغ الإنفاق 885 مليون يورو مقابل إيرادات تقدر بـ 928 مليونًا، محققًا فائضًا نادرًا، وفق تقرير Catholic News Agency.
البابا فرنسيس: إصلاح مالي بأبعاد روحية
منذ بداية عهده البابويّ، لم يتردد البابا الراحل فرنسيس في خوض مواجهة مباشرة مع البيروقراطية الفاتيكانية، معززًا مبدأ “الكنيسة الفقيرة من أجل الفقراء”، وندد باستخدام المال كأداة سلطة. لكن مواقفه لم تكن رمزية فقط، بل شملت إصلاحات جذرية شملت دمج الإدارات المالية، وإلغاء الامتيازات، وإقرار قوانين تفرض الشفافية والمساءلة على كل عمليات الشراء والاستثمار.
في أحد خطاباته أمام الكرادلة، دعا البابا إلى “اقتصاد أخلاقي شفاف يخدم الرسالة الإنجيلية”، وتجسد محاولاته لمكافحة الفساد ما جاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس: “لِأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ ٱلشُّرُورِ، ٱلَّذِي إِذِ ٱبْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ ٱلْإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ” (1 تي 6: 10).