مع كل التفاوت والاختلاف الواقع بين الأهل والأولاد، من النواحي الشخصية والعمرية والبيئية المصغرة ، تبقى في داخل الأهل تخبطات دائمة ومتشابهة لدى الأغلب، وتبقى الأسئلة الكثيرة التي تدور في الفلك الوالديّ: “هل أقوم بوظيفتي بالطريقة الأمثل؟ هل أنا قدوة لأولادي؟ هل أجهزهم لحياتهم البالغة كما يجب؟”. تُظهر الأبحاث المختلفة أنّ أغلب الأهل غير قادرين على وضع الحدود بمجالات التربية المختلفة، وسنلقي الضوء هنا على التربية المالية، فمهما بلغت مقدرة الأهل بالتحكم في إدارة ميزانيات كبيرة في مجال عملهم، فإنّ تدخل عوامل إضافية عند التعامل مع أولادهم يشوش العقلانية المالية الصحيحة.
ناردين أرملي، مستشارة لاقتصاد العائلة
ومن بعض هذه العوامل ما يلي:
الضغط الاجتماعي: دور المجتمع والضغط الاجتماعي نتيجة الظروف البيئية المحيطة بنا، وهو دور أساسي له التأثير الكبير، فنحن نريد الانتماء لمجموعتنا المفضلة، والطريق الأقصر تكون عادة بتبني جميع عاداتها حتى لو لم نتفق معها تمامًا، مثلًا : “حتى لو علمنا جيدًا أن لا حاجة لطفل/ة في جيل 8 سنوات أن تقتني هاتفًا خلويًّا، فإنه من الصعب علينا منعه/ها من شرائه، خاصة حين نسمع بأنّ معظم الأولاد في الصف يحملون الخليوي”. مثال آخر: “عند اقتراب عيد ميلاد الابن/ة نحاول إقناعه/ها بالاكتفاء باحتفال بسيط، ولكن نحن نعلم أنّه خلال السنة شارك/ت باحتفالات ميلاد أصحابه/ها والتي كانت بعيدة كل البعد عن الاحتفالات البسيطة فنضطر للرضوخ لذلك”. مثال آخر: “نعطي الأولاد المصروف بلا حدود حتى يشعروا أنهم مثل أصدقائهم وليسوا أقل منهم، وسرعان ما يتبنوا هذه الحجة ويستعملونها ضدنا في المفاوضات المالية لمعرفتهم قوة هذا السلاح (كل أصحابي معهم، كلهم ذاهبون، أنا الوحيد/ة اللي فش عندي…).
التعويض المادي نتيجة تقصيرٍ والديٍّ آخر: عندما نشعر أننا نُقصّر مع أولادنا بواجباتنا كأهل، إن كان من ناحية تواجدنا الفعلي معهم واهتمامنا بأمورهم المستجدة، نلجأ للتعويض المادي بدلا عن ذلك، كشراء الهدايا أو ممتلكات مادية أخرى، أو تعويضًا ماديًّا غير مباشر، كأخذهم لرحلات مكلفة خارج البلاد أو كأن نقضي كل نهاية أسبوع في مطاعم واماكن ترفيهية، كل ذلك تعويضًا عن انشغالنا عنهم خلال الأسبوع، وهكذا نعطي أولادنا “قيمة وعبرة” عن أهمية الامور المادية ونرفع سقف التوقعات منا كأهل تجاه اولادنا وبشكل مستمر نحو القيم المادية المرتفعة والباهظة الثمن لإمكانيات الترفيه وعدم القبول بأقل منها لإرضائهم.
من العار التحدث عن الأمور المالية (النقود): رُبينا ونربي أولادنا بأنه من المحرج أن نسأل عن معاش أهلنا وأن نناقش أو نستوضح عن الأمور المالية، أو أن نقارن ثمن المنتجات ونحدّد إذا كان بإمكاننا شراء هذا المنتَج أم لا، وكل هذا خوفًا من أن تلتصق بنا أحدى الصفات كالبخل أو الفقر، ونرى ذلك واضحًا اليوم في مواسم الأعراس والمناسبات الأخرى حتى الأتراح، نضطر أن نقلّد ما يقوم به غيرنا حتى إذا لم تتوفّر لدينا المقدرة المادية والسيولة كي لا نكون “مقصّرين”.
الشبكات الاجتماعية: من مضار الشبكات الاجتماعية الملحوظة اليوم هي إدخالنا في وهم أنّ الجميع يقضي أوقاتًا سعيدة دائمًا، إن كان في الرحلات خارج البلاد والمطاعم والتسوق، ويجعلنا هذا في منافسة مع الآخرين ومحاولة مجاراتهم خاصة حين تُنشَر الصور، فنعتقد أنّنا الوحيدون الذين بقينا في البيت، بدون تفكير أن بقية الناس بقوا مثلنا في البيوت ولم يخرجوا للتمتع، ولم ينشروا شيئًا في الشبكات الاجتماعية. ضرر آخر هو كشفنا نحن وأولادنا احتفالات وبذخ أشخاص موجودين ضمن دائرتنا الموسّعة في شبكات التواصل الاجتماعي، وأيضًا دائرة أصدقائنا، الذين يمتلكون قدرات مادية أكثر، فنحاول تقليدهم، أي أنّ دوائر التواصل المباشرة والغير مباشرة تُظهِر لنا مغريات أكثر وترفيهات نحاول تقليدها دون تخطيط صحيح وحسابات لما نملك حقيقة.
الأهل قدوة سيئة للأولاد: نحن كأشخاص بالغين ومسؤولين لا ندير ميزانياتنا العائلية بشكل عميق أو دقيق، لا نوفر في مصروفاتنا بشكل كاف ولا نضع سلم أولويات في احتياجاتنا المرتبطة بالصرف، لا نقارن الأسعار قبل شراء الحاجيات وغالبًا حتى لو ناقشنا الموضوع نقاشاتنا تنتهي بدون حلول منطقية وبمشاحنات عائلية.
بعض الاقتراحات لحل أزمة التربية المالية:
التحدث عن المال في كل فرصة مناسبة: عندما يتعلم الأولاد القراءة ندربهم على كيفية مقارنة الأسعار أثناء اصطحابهم للمشتريات، وعندما يتعلمون الحساب نعلمهم طرق الدفع، حساب الثمن وحساب الباقي (مع الأخذ بعين الاعتبار خصائص الجيل والقدرات الذهنية المتعلقة بذلك)، وعندما يكبرون أكثر نصطحبهم للبنك ونشرح لهم العمليات البنكية المختلفة.
إعطائهم المحفزات الدائمة للتوفير: مثال : “تريد شراء دراجه هوائية، وفر/ي نصف المبلغ وأنا أكمل لكَ/كِ بقية المبلغ” (أهداف واقعية وليست مستحيلة).
التحدث عن الأمور المالية بشفافية ومشاركتهم بأهمية الانتباه لسلم الأولويات العائلي.
مسؤوليتهم عن مصروفهم: على الأهل تحديد المصروف الأسبوعي (فوق جيل 9 سنوات ) أو الشهري (فوق جيل 14 عامًا) وإعطاء أولادهم إمكانية إدارة الميزانية، وأيضًا تحمّل نتائج هذه الإدارة بحسناتها وسيئاتها، والصرف بتحكم وإعطاء سلم أولويات بالمصروف اليومي، وبذلك يُنمّى لدى الأولاد القدرة على الادارة المالية السليمة عندما يكبرون.
الأهل قدوة لأولادهم: إدارة ميزانية عائلية سليمة، توفير، مقارنة أسعار، تخطيط سليم ما قبل الصرف.
ماذا نحلم لأولادنا؟
أن يكونوا ناجحين، محترمين، سعداء، لديهم رفاه اقتصادي يوفر لهم حياة كريمة، يتقنون مهنة ناجحة، هذا ما نسعى للوصول إليه من أجلهم، فمنذ صغرهم نعمل جاهدين متفانين لتنمية قدراتهم التعليمية العالية وأخلاقهم الحميدة وتصرفاتهم السوية، ولكننا نهمل أو نكاد لا نعطي أهمية لكل ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والمالية والتدريب على ذلك، وهذا لا يقل أهمية عن بقية النواحي التربوية، فمن الهام للغاية أن يصبحوا أطباء مثلًا ولكن بدون إهمال للجانب الاقتصادي كي يبنوا حياتهم بدون ضغوط مادية متراكمة ووضع مالي سيء، بل مستقر يساعدهم على تحقيق أهداف وأحلام مستقبلية.