“ما دُمتَ ترغب في البقاء في هذا البلد، يجب أن تدفع الثمن، عليك أن تُخرج أموالًا من جيبك وتستمر، حتى يبقى المركب سائراً”، بهذه الكلمات يصف أحد التجار المقدسيين الواقع الاقتصادي في البلدة القديمة بالقدس. “لا يوجد ناس تدخل، لا يوجد زبائن، لأنّ الشرطة تسأل كلُّ من يدخل من أين أتى وإلى أين يذهب ولماذا”. هذه الظروف تعكس الواقع الصعب الذي يعيشه التجار في البلدة القديمة بالقدس، في ظلّ انعدام خطة دعم من أي جهة رسمية، حيث يؤكد أمين سر الغرفة التجارية، حجازي الرشق، أنّ أيّ خطة مساندة سيجهضها الاحتلال.
آثار جائحة كورونا والحرب: صدمات متتالية للتجّار المقدسيين
منذ جائحة كورونا وحتّى الحرب، يعيش تجار البلدة القديمة في القدس صدمات متتالية، ويبدو أنّ التعافي يتطلب معجزة. سوق البلدة القديمة، الذي تبلغ مساحته 900 دونم فقط، يُعدّ القلب النابض لمدينة القدس، لكنّ معظم المحالّ التجاريّة مغلقةٌ اليوم، باستثناء عدد قليلٍ منها تتشبّث بأمل أن يدخلها أيٌّ من العابرين القليلين في الطرقات، وسط نقاط تفتيش وبوّابات أمنية. هذا المشهد القاتم بدأ منذ السابع من أكتوبر، مخيّمًا على البلدة القديمة الأضعف اقتصاديًّا، نتيجة لانعدام السياحة الخارجية والداخلية.
مطعم لينا: “الحمّص بضل عنّا أسبوع حتّى نقدر نبيعه”
قرب حارة النصارى، يقع مطعم لينا، المعروف بجذب زبائن من أطياف مختلفة، أبرزهم الزبائن اليهود أيام السبت. يقول غالب زاهدة، صاحب المطعم، إنّ إقبال الإسرائيليين أصبح قليلًا جدًا، وقد ترافق ذلك مع انعدام حركة السياح وتراجع زيارات أهل الشمال إلى القدس، حيث أصبحت البلدة القديمة مكانًا فارغًا إلّا من سكّانها المحليين. وأضاف غالب أنه يقوم الآن بإعداد كمّيات أقل مما كان يُعِدّه قبل الحرب، وأنّ الأشهر الأخيرة شهدت تحسنًا بسيطًا بوتيرة بطيئة للغاية. ويرى أنّ البلدة القديمة هي الأكثر تضرّرًا نتيجة للقيود المفروضة على حركة الزبائن.
حلويات أبو سير: تحدّيات القدوم للعمل والاستمرار
قرب باب الجديد، يقع محل حلويات أبو سير الذي يحظى باستحسان المقدسيين واليهود والسياح. أوضح أبو سير أنّ القدوم للعمل منذ بداية الحرب كان تحدّيًا بحدّ ذاته، بحكم أنّه يقطن بعيدًا عن البلدة القديمة، حيث يتمركز الجنود للتفتيش عند مدخل الباب. أدّى هذا إلى قلّة الزبائن بسبب الإجراءات الإسرائيلية المتّبعة من الشرطة. وأكّد أن الوضع كان سيئًا للغاية وبدأ بالتحسّن فقط هذا الشهر، وأنّ زبائنه من اليهود يشعرون بالخوف، بالإضافة إلى انعدام حركة السياح، وسط قيود لا تسمح للمقدسيين بالدخول بسهولة. نتيجة لذلك، قلّت ساعات عمله واختلفت نوعية زبائنه فأصبحت من المقدسيّين فقط، خصوصًا الذين لا يشعرون بالأمان للتوجّه إلى القدس الغربيّة. تحدّث أبو سير أيضًا عن التحدّيات التي يواجهها ليظلّ المحلّ مفتوحًا، حيث يحاول تسديد الإيجار بموعده، وتقليل النفقات بالعمل هو وابنته فقط بعد أن سرّح موظّفيه، وقد كان أحدهم من بلدة بيت جالا (قرب بيت لحم)، لكنّه لم يعد قادرًا على القدوم إلى القدس نتيجة إيقاف تصاريح عمّال الضفّة الغربيّة إثر الحرب.
وفي وصف السكون الحزين الذي يغمر شوارع القدس القديمة، يُخبرنا أبو سير أنّه أصبح يسمع، من كنيسة القيامة، خطبةَ الجمعة في المسجد الأقصى، رغم المسافة البعيدة بينهما، نتيجةً لخفوت أصوات الحياة في بلدةٍ أصبحت مدينة أشباح.
جاليري باسم: الإغلاق نتيجة لغياب السيّاح وقيود الحرب
عصام بيان، صاحب جاليري باسم، اضطرّ إلى إغلاق حانوته منذ بداية الحرب لاعتماده بشكل كلّي على السياح. ذكر بأنّه مُنِعَ من دخول البلدة القديمة، وأنّ ضريبة الأملاك (الأرنونا) بقيت كما هي دون تخفيض. وأضاف بأنّه دفع إيجار محلّه سنويًا قبل الحرب، لكنّه مغلقٌ الآن مع تكبد خسائر كبيرة. توجّه عصام للعمل في قطاع آخر لحين عودة حركة السياحة، وأكّد عدم تلقّيه أيّ مساعدات مالية من أي جهة، حتى من الغرفة التجارية التي يحمل عضويتها، والتي تُقدّم خدمات فقط حسبما قال. لولا الحرب، يقول عصام، لكانت حركة السياحة نشطة، إذ امتلأت فنادق القدس بالسيّاح خلال شهرَي أكتوبر ونوفمبر، وقد انعكس ذلك على حركة البيع والشراء في محلّه.
فندق “إمبريال”: صراع قانوني وديون متراكمة
أوضح أبو الوليد الدجاني، مالك ومدير فندق “إمبريال” المتنازع عليه في المحاكم نتيجة صفقة عُقِدَت عام 2004، أنّ الفندق يمر بأزمة حقيقية. تمت الصفقة بين مطران الكنيسة الأرثوذكسية والجمعية الاستيطانية “عطيرت كوهنيم”، ما أوقع الفندق في صراع قانوني في أروقة المحاكم وديون متراكمة نتيجة ضريبة الأملاك (الأرنونا). استدان الدجاني مئات الآلاف من الشواكل من البنك مرّتين خلال هذه الفترة، ويعتقد أنّ التعافي من هذه الخسائر سيتطلّب العمل لمدة سنتين إلى ثلاث سنوات. وأكد أنّ الفندق كان يعمل بنسبة 80% شهريًا، أما الآن فالنسبة تقترب من الصفر مع أموال متساقطة على الأرض. يعمل الدجاني يوميًا منذ بداية الحرب بجانب أولاده فقط دون عمّاله الذين كانوا يأتون من الضفة الغربية، ويشتغل الفندق حاليًا لخدمة أربعة سيّاح فقط.
القطاع السياحي: الاعتماد على الأرباح السابقة
وضّحت سهير زعاترة، المستشارة الاقتصادية ومديرة بنك لؤمي سابقًا، أنّ المحلّات السياحية في البلدة القديمة تعيش حاليًا على الأرباح التي حققتها في السنوات السابقة. وأكّدت أنّ البنوك لا تمنح القروض حاليًا نتيجة ارتفاع نسبة المخاطرة في استرداد قيمة القروض بسبب الوضع الراهن، وبأنّ المقدسيين يتخوفّون الإفصاح عن دخلهم بشكل صحيح خشية فرض ضرائب مرتفعة، ما يزيد من التحديات التي تواجههم. وأضافت أنّ المصالح التجارية في البلدة القديمة تعتمد الآن على الإنفاق من جيوب أصحابها بدلاً من تحقيق أرباح، منوّهةً بأنّ أغلب التجار لا يملكون ملفات ضريبية، ما يصعّب موقفهم، وأنّهم لا يثقون بالحكومة بسبب عدم تلقيهم الخدمات الكافية ذات الجودة.
الغرفة التجاريّة: مؤسّسة وطنيّة عريقة بلا دعم
قال حجازي الرشق، أمين سر الغرفة التجارية في القدس، إنّ الغرفة أُغلقت عام 2001 بقرار من وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي بدعوى أنها إحدى أذرع السلطة الفلسطينية في القدس. وأكّد عدم توفر دعم أو تمويل أو مِنَح للغرفة، التي تأسّست عام 1936 على أيدي تجار مقدسيين وكانت أول غرفة تجارية في الوطن العربي. تعمل الغرفة كمؤسسة خدماتيّة للتجّار المقدسيين، وتخلو خطّتها الاستراتيجية من النشاطات السياسية. الأنشطة التي تُقام للقدس عادةً ما تُنظم من خارجها، من مكاتب الغرفة الموجودة في العيزريّة والرام (مناطق تابعة إداريًّا للسلطة الفلسطينيّة)، وتشمل البازارات والمشاركة في المعارض الدولية.
أوضح حجازي أيضًا أنّ عدد المحلات التجارية في البلدة القديمة يُقدّر بألف محل، منها 220 محل مسجّل كعضو في الغرفة التجارية، وأنّه يصعب حاليًا حصر عدد المحال المُغلقة بسبب الظروف الراهنة. وأشار حجازي إلى أنّ 34% من القطاع التجاري في القدس يعتمد على السياحة، وهذا القطاع يعاني بشكلٍ كبيرٍ في الوقت الحالي. وأضاف بأنّ 9% فقط من المحلات التجارية في البلدة القديمة تعمل بشكلٍ منتظم إلى حدٍّ ما، بينما تواجه 57% من المحلات صعوباتٍ في العمل وتضطرّ للإغلاق بشكلٍ متكرّر.
شدّد حجازي على صعوبة وضع خططٍ فعّالة لدعم التاجر المقدسي في ظلّ الممارسات الإسرائيلية التي تُعيق أيّ محاولاتٍ للنهوض بالاقتصاد. وأشار إلى أنّ خيارات التاجر محدودةٌ جدًّا، ما يُفاقم من صعوبة الوضع. وأكّد أنّ النهوض بسوق البلدة القديمة يعتمد بشكلٍ أساسيّ على زيادة أعداد الزائرين من داخل الخط الأخضر، وتوفير رحلاتٍ يوميةٍ من مختلف مدن الداخل. كما اقترح توزيع حافلاتٍ على جميع أبواب البلدة القديمة لتسهيل وصول الزائرين إلى مختلف الأسواق.
المحلّات التجاريّة: أرقام مفزعة
تقدّر الغرفة التجاريّة في القدس عدد المحلات داخل أسوار البلدة القديمة بـ 1372 محلًّا، تمتد عبر عدد من الأسواق كسوق خان الزيت، والقطانين، واللحامين، والبازار، والدباغة. تأثّرت 57% من هذه المحلّات بشكلٍ كبيرٍ للغاية، حيث تراجعت مبيعات العديد منها بنسبة 90%. ويبلغ عدد محلّات التحف الشرقيّة 462 محلًّا، ما نسبته 34% من مجموع المحال الكلّيّ، وقد تأثّرت بشكلٍِ كامل لاعتمادها الأساسيّ على السيّاح. وتبلغ نسبة المحلّات التي عملت بشكل مقبول إلى حدٍّ ما 9% فقط، وهي المحال التي تنحصر سلعها بالمواد الغذائية كاللحوم والدواجن والبهارات.
ختامًا: البلدة القديمة بين الصمود والتحديات
هذه هي حال البلدة القديمة في القدس اليوم. تجّارها يكافحون للبقاء بين قيود الاحتلال وغياب الدعم الرسمي، وبين معاناة يومية تتطلب منهم صمودًا كبيرًا في وجه التحديات المتزايدة. السياحة متوقفة، والخسائر تتراكم، ورغم التحسن البطيء في الأشهر الأخيرة، إلّا أنّ التعافي المطلوب ما زال بعيد المنال. البلدة القديمة تحتاج إلى معجزة اقتصادية، ودعم محلي ودولي، لتتمكن من استعادة نشاطها التجاري والسياحي وتحقيق الاستقرار لتجارها وسكانها.