بالنسبة لمعظم الفلسطينيين في قطاع غزة، يُشكّل الهروب من ويلات الحرب عبئًا ماليًا باهظًا على كاهل العائلات. فمعبر رفح البري هو طوق النجاة الوحيد من هذه الحرب، لكن، لينقذ ربّ عائلة زوجته وأطفاله، عليه أن يدفع ما معدّله 5 آلاف دولار على فرد الأسرة الواحد، فلا يُترك للعائلات “الراغبة” في النجاة من مصير الحرب المؤلم، سوى خيارٍ واحد فقط… دفع عشرات الآلاف من الدولارات ثمن حياتهم.
بحسب تحقيق لنيويورك تايمز، فإنّ شركة “السياحة” المصرية “هلا” هي المسؤولة عن إصدار هذه التنسيقات، وتُقدّر أرباحها من الحرب على غزة بمئات ملايين الدولارات، حيث تفيد تصريحات السفير الفلسطيني في مصر، بأنّ ما يقارب 100 ألف فلسطيني غادروا غزة منذ بدء الحرب، جُلّهم عبر دفع أموال باهظة للمرور عبر معبر رفح. وأمام الوضع الاقتصادي الخانق أصلًا قبل الحرب، نتيجة للحصار الإسرائيلي، يلجأ العديد من أهالي غزّة إلى منصّات التمويل الجماعي، مثل موقع GoFundMe، لجمع تبرّعات من المتعاطفين حول العالم، من أجل شراء “تذكرة حياة” عبر معبر رفح.
الدكتور سليم غياظة، المقيم في اسكتلندا منذ عام 2003، هو أحد الأشخاص الذين دشّنوا حملة للتبرعات لإجلاء أسرته، بعد أن أُصيب والده المقيم في غزّة بنوبة قلبية كادت تودي بحياته. لحسن الحظ، نجح الدكتور سليم في اللقاء مع عائلته في القاهرة، رغم أنّ أكثر من 28 فردًا من بقيّة أسرته لا يزالون عالقين في القطاع، حيث ضاقت عليهم السبل أكثر، نتيجة للعملية العسكرية في رفح واحتلال المعبر.
تتقاضى شركة هلا 5,000 دولار على الفرد الذي يبلغ عمره 16 عامًا فأكبر، و2,500 دولار على من تبلغ أعمارهم أقل من هذه السنّ. وتُشير العديد من المصادر أن هذه الأسعار ترتفع حسب الطلب في سوق الحرب هذه، ومن الممكن أن تصل إلى 15 ألف دولار للفرد الواحد، خصوصًا عبر “السماسرة” والوسطاء غير الرسميين.
وفي حين تمكّن بعض الفلسطينيين في قطاع غزة من تجنّب هذه المبالغ، خصوصًا أولئك المرتبطون بالمنظمات الدولية، أو من يحملون جوازات السفر الأجنبيّة (الأمريكية والأوروبية منها خصوصًا)، إلّا أنّ الغالبية العظمى من سكان غزة، البالغ عددهم 2 مليون شخص، لا يتمتعون بهذه الامتيازات، مهما كانت حالتهم الإنسانية أو احتياجاتهم الطبية صعبة. ومن المفارقة العجيبة أيضًا، أنّه يتوجّب حتّى على المواطنين المصريين العالقين في القطاع دفع ثمن هذا التنسيق للعودة عبر معبر تديره حكومتهم. تخيّلوا فقط ماذا سيحدث، لو اندلعت حربٌ في المكسيك، وتقاضت الحكومة الأمريكية مالًا للسماح للمواطنين الأمريكيين بالعودة إلى بلادهم!
استطاعت النيويورك تايمز الحديث مع إبراهيم العرجاني، أحد الأثرياء المساهمين في شركة هلا، والذي يرتبط بعلاقة وثيقة مع الحكومة المصرية، حيث ساعدها في حملاتها العسكرية ضدّ المسلّحين في سيناء. نفى العرجاني هذه التكاليف المرتفعة، مؤكّدًا أنّهم يتقاضون فقط 2,500 دولار على الشخص البالغ، ويسمحون للأطفال بالسفر المجانيّ. يدافع العرجاني عن هذه التكاليف بأنّها الثمن لخدمات VIP تُقدّمها شركة هلا، مثلها مثل أيّ شركة سياحية تعمل في المطارات والمعابر، قائلًا إنّ خدماتهم تشمل تقديم وجبات الطعام والتنقّل بسيارات BMW من رفح إلى القاهرة، ومتذرّعًا أيضًا بالارتفاع الشديد للتكاليف التشغيلية الناجم عن الحرب. وقد نفى العديد من الفلسطينيين الذين حاورهم مُعدّ التقرير تصريحات العرجاني، مؤكّدين أنّهم تنقلوا بباصات صغيرة، ولم يحصلوا على أيّة خدمات VIP.
أفادت منصة “غو فاند مي”، أنّ حملات التبرّع التي دُشِّنَت عليه نجحت بجمع أكثر من 150 مليون دولار لقضايا متعلّقة بقطاع غزة، منذ بدء الحرب الإسرائيلية في أكتوبر الماضي. لكنّ محاولات جمع ثمن التنسيق لا تتكلّل بالنحاح أغلب الأوقات. حاول أحد الشبّان الذي يسكن هو وعائلته خيمة في شاطئ دير البلح، أن يجمع مبلغ 37 ألف دولار من خلال المنصة، كي يتمكّن من إجلاء عائلته. لكنّه لم ينجح حتّى الآن، بعد عدّة أشهر من إنشاء صفحته على الموقع، سوى في جمع مبلغ 7,330 دولار. يتحدّث الشاب بمرارة عن الاضطرار إلى التعامل مع “متربحي الحروب”، وكيف أنّه لا يملك أيّ خيارٍ آخر سوى الانتظار.
لا تقتصر الصعوبات على جمع الأموال فقط، بل تُغلّف العملية طبقات من التعقيد تمتدّ إلى إجراءات التسجيل في شركة هلا. إذ يجب على أحد أفراد العائلة الراغبة في الحصول على تنسيق المغادرة، أن يذهب بنفسه إلى مقرّ الشركة في القاهرة، ويدفع 100 دولار ثمن تقديم الطلب وحده. ولا تقتصر “سوريالية” الواقع على ذلك، إذ يُشترَط أن تكون ورقة المئة دولار المدفوعة جديدة، أي صادرة بعد عام 2013، حيث ترفض الشركة الدولارات القديمة الباهتة. وقد استطاع مُعدّ التقرير أن يُشاهد بأمّ عيينه تكدّس المئات من الفلسطينيين أمام مقرّ الشركة كي يُقدّموا طلبات التنسيق لعائلاتهم العالقة تحت القصف، حاملين في أيديهم أوراقًا مالية جديدة… خضراء كخضرة الحياة.
المصدر: بتصرّف عن تحقيق لنيويورك تايمز