الحرب على غزة كانت آخر ما ينقص مدينة الناصرة للإعلان رسميا عن موتها السريري كإحدى أهم الوجهات السياحية في الشرق الأوسط، وربما في العالم. قبل الحرب كانت الكورونا، وقبل الكورونا فرضت عصابات الإجرام، ولا تزال، إرهابها على الشارع. “طفح الكيل” يقول صاحب أول دار ضيافة في السوق الذي قرر إغلاق المشروع بسبب الأوضاع.
“الرجاء إلغاء الحجز”. هذا كان الطلب الأكثر تكراراً الذي وصل إلى موظفي الاستقبال في فنادق الناصرة ودور ضيافتها في الأسبوع الذي تلا السابع من أكتوبر. في ذلك الأسبوع كانت طلبات الإلغاء تتعلق بحجوزات شهر اكتوبر فقط، لكن في الأسابيع اللاحقة بدأت تصل أيضا الغاءات حجوزات نوفمبر وديسمبر، يعني حجوزات فترة عيد الميلاد، أهم الفترات السياحية في المدينة. هنا أدرك أصحاب الفنادق والمرافق السياحية بأن الضربة هذه المرة ستكون قاضية.
انتعاشات بين الأزمات
ما في الناصرة من معالم دينية وأثرية يكفي لكي تكون هذه المدينة واحدة من أهم الوجهات السياحية في العالم: كنيستا البشارة، عين العذراء، السوق القديم، جبل القفزة، وقرية السيد المسيح، إضافة إلى المغارات التي تقود إلى مسارات تحت الأرض وتأخذ الزوار في جولة تاريخية عبر الحضارات التي مرت على هذه المدينة على مدار آلاف السنين. هذه الجواهر السياحية كان من المفترض أن تجذب مئات آلاف، وربما ملايين، السياح من جميع أصقاع الأرض. على أرض الواقع اجتمعت كل الأسباب الخاطئة لتقويض أية فرصة حقيقية لتحقيق هذه المكانة.
منذ عام 1948 اعتُبرت الناصرة، المدينة الفلسطينية الوحيدة التي لم تُهجّر خلال النكبة، عاصمة الجماهير العربية ومركزهم الحضري الأول. خلال سنوات الحكم العسكري وحتى أوائل التسعينات اعتبرت حكومة إسرائيل مدينة الناصرة مركز العمل السياسي العربي المُناهض لسياسات الدولة والمحرّض عليها. فيها كانت مراكز الأحزاب الرئيسية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي والجبهة، ثم التجمع. وعلى رأس بلديتها وقف توفيق زيّاد، الشخصية الوطنية المعروفة. أضف إلى ذلك أن الناصرة مركز ديني مسيحي في دولة يهودية تُقدّس كل ما يرتبط بالرواية اليهودية الصهيونية وتلغي أي رواية بديلة تهددها. في هذه الظروف، وعلى مدى عقود طويلة، لم تهتم أي جهة رسمية في تطوير الناصرة كمركز سياحي، بل على العكس، لكن الصورة بدأت تتغير في منتصف التسعينات.
مع وصول حكومة رابين للحكم في أوائل التسعينات، وتزايد القوة السياسية للعرب في الكنيست وتوقيع اتفاقية أوسلو وما تلاها من آمال بتحقيق السلام، بدأت بوادر التغيير في تعامل الدولة مع الناصرة بصفتها مركزاً سياحيا أيضا. في عام 1995 أعلنت حكومة رابين عن مشروع “الناصرة 2000” لتجهيز المدينة لاستقبال البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته التاريخية للمنطقة، والتي شملت زيارة الناصرة التي وصلها يوم 25 مارس 2000.
منذ عام 2000، شهدت المدينة نهضة في القطاع السياحي. رغم تعدد الأزمات والحروب المتعاقبة، ارتفع عدد غرف الفندقية في المدينة من 300 غرفة عام 1998 إلى 2300 غرفة في يومنا هذا. حصلت هذه الزيادة بسبب بناء فنادق جديدة وأيضا بسبب فتح العديد من دور الضيافة الخاصة التي أقيمت بمبادرات شخصية وحوّلت عددًا من البيوت القديمة في منطقة السوق إلى دور ضيافة فندقية (guest house) بمستويات فندقية مختلفة. حاليا يعمل في الناصرة عشرة فنادق ونحو 30 دار ضيافة فندقية. كما شهد سوق الناصرة خلال السنوات الاخيرة نهضة تستند في غالبيتها على مبادرات شخصية محلية، لكن هذه النهضة لم تدم. من يمشي اليوم في السوق يمشي في حارة أشباح. غالبية المحال التجارية مُغلقة، والمفتوحة منها تعاني شح البيع وسيطرة “الزعران” على السوق.
بحسب دراسة حديثة أعدتها جمعية الناصرة لتطوير السياحة، تبين أنه بين الأعوام 2016-2019 طرأ ارتفاع بنسبة 26.8% في عدد الغرف الفندقية في المدينة. في عام 2019 بلغ إجمالي السياح الذين زاروا الناصرة 285 ألف سائح تقريبا. 81% منهم سياح أجانب، و19% سياح محليين (غالبيتهم من المجتمع اليهودي). وتمثل هذه الأرقام قفزة بنسبة 150% تقريبا عن عدد السياح الذين زاروا المدينة سنة 2016. وبحسب هذه المعطيات تحتل الناصرة المركز الثاني في البلاد بنسبة السياح الأجانب الذين يزورونها مقارنة بنسبة السياح المحليين، ما يشير إلى ضعف مكانة الناصرة كوجهة سياحية جذابة بالنسبة للإسرائيليين بشكل عام.
انتعاشة ثم طوفان
خلال أزمة الكورونا، وكما هو الحال في جميع أنحاء العالم، شُلّت الحركة السياحية في المدينة بشكل تام، وأغلقت جميع المرافق السياحية أبوابها لفترات طويلة ومتواصلة، الأمر الذي دفع بالكثير من العاملين في قطاعات السياحة المختلفة إلى البحث عن مصادر بديلة لكسب الرزق. ومع انتهاء الوباء عام 2022 انتعشت الحركة السياحية في المدينة بشكل ملحوظ، واستمر هذا الانتعاش حتى اندلعت الحرب بعد السابع من أكتوبر 2023.
في حديث مع المستشار السياحي طارق شحادة، المدير السابق لجمعية تطوير السياحة والثقافة في الناصرة، يصف لنا حجم الضرر الذي تعرضت له المدينة بسبب الحرب. يوضح شحادة: “هناك موسمين رئيسيين للسياحة في الناصرة: الأول من مارس حتى مايو، والثاني من سبتمبر حتى نوفمبر. الحرب بدأت في ذروة الموسم السياحي، والنتيجة كانت أنه وخلال أسبوع عاد جميع السياح الى بلادهم وخلت الفنادق بالكامل. الفنادق تلقت بلاغات لإلغاء جميع الحجوزات المستقبلية، وهذه اسوأ رسالة من الممكن أن يتلقاها أي شخص يعمل في مجال السياحة. وكما تعلم بأن السياحة الدينية تكون منظمة عن طريق مجموعات. هذا الوضع تسبب في خسائر كبيرة، حيث اعتمدت السياحة الدينية على الحجوزات المسبقة التي تتم قبل سنة أو سنتين”
ويتابع شحادة قائلاً: “نحن في وضع مأساوي ولا نعرف ما العمل. بعد اندلاع الحرب انتظر أصحاب الفنادق في الناصرة شهرين تقريبا ثم بدأوا بتسريح الموظفين بإجازة بدون راتب. هذا الحال ينعكس بصورة سلبية على العديد من المصالح في المدينة وخاصة المصالح الصغيرة، إذ أن جزءًا منها لن يعود للعمل مجددًا. على سبيل المثال، في منطقة العين التي كانت تضم أكثر من عشر مطاعم، اليوم يوجد فقط ثلاثة مطاعم. العديد من المبادرات التي افتتحت أبوابها في السوق قد اختفت.”
إغلاق بيت الضيافة “فوزي عازر”
بيت الضيافة “فوزي عازر” الذي افتتح أبوابه عام 2005 في سوق الناصرة القديم، يُعد أول بيت ضيافة يُفتتح في السوق، وهو تحفة معمارية مميزة مبنية على الطراز العثماني وكانت في السابق قصرًا لأحد وجهاء الناصرة. تم افتتاح هذا المشروع الفريد من نوعه بمبادرة معوز يانون، ناشط سلام ومبادر في مجال السياحة، بالتعاون مع أصحاب البيت. قبل أسابيع قليلة قرر معوز إغلاق بيت الضيافة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية. “طفح الكيل! في السنوات الأخيرة أغلقنا البيت ست مرات لأسباب مختلفة. لكن هذه الحرب المتواصلة منذ ثمانية أشهر كبدتنا خسائر اقتصادية كبيرة ولم نعد قادرين على الاستمرار فقررنا اغلاق البيت حتى إشعار آخر”. يقول معوز، الذي فقد أباه وأمه في أحداث السابع من اكتوبر.
لا يستطيعون التحمل
يشعر أصحاب المصالح في الناصرة بالإحباط الشديد، حيث يؤدي إغلاق أحد المحال إلى إحباط نفسي لدى أصحاب المصالح المجاورة. خلود أبو أحمد، الناشطة الاجتماعية التي بادرت إلى إقامة مشروع سياحي في بداية عام 2023، توضح أن المشروع توقف بسبب الحرب ومقاطعة المجتمع اليهودي للبلدات العربية. “كان الاعتقاد السائد بأن الحرب ستنتهي خلال شهر واحد، إلا أنها مستمرة حتى يومنا هذا دون بوادر جادة لإنهائها. وهذا ينعكس سلبا على أصحاب المصالح الذين يفقدون تدريجيا القدرة على التحمل والصمود في ظل الظروف القاهرة مع دخول الحرب شهرها التاسع، والنتيجة أن أصحاب العديد من المبادرات اليوم يفكرون جديا بإغلاق مصالحهم، لكن هناك من يبقى الأمل لديه قائمًا بأن هذه الغمامة سوف تزول في نهاية المطاف وأنه ومع انتهاء الحرب يمكن الانتظار قليلا حتى تعود السياحة تدريجيا.
منذ بداية الحرب، اقتصرت المساعدات الحكومية على دعم النازحين من بيوتهم في الشمال وتعويضات مالية لمن أغلق مصالحه في تلك البلدات. لم تعترف الدولة بالأضرار التي لحقت بالقطاع السياحي في الناصرة. في البلدات اليهودية السياحية مثل طبريا وإيلات، تم إرسال آلاف النازحين إلى الفنادق ودفع تكاليف إقامتهم، مما ساعد الفنادق على تعويض جزء من الخسائر. في الناصرة، استقبلت ثلاثة فنادق فقط من أصل 10 النازحين. ووفقًا لشحادة فإن هذا ليس محض صدفة، كما أنه وفي الوضع الطبيعي ليس صدفة أن عملية التسويق والترويج تتم لهذه البلدات فقط .
والعمل؟
في ظل الظروف غير المستقرة، يؤكد شحادة على الحاجة الماسة لإقامة منظومة سياحية عربية تعمل من خلال اللجنة القطرية لتوحيد العاملين في مجال السياحة. شحادة يشدد على أهمية تطوير قطاع الضيافة كجزء من التجربة السياحية. “الناصرة لديها إمكانيات كبيرة لم تُستغل بعد، وهناك حاجة إلى استمرارية ورؤية وخطط لتحقيق هذه الإمكانيات. وخاصة اننا لم نستفد حتى الآن كل الطاقة الكامنة في مدينة الناصرة ويمكن القول اننا وصلنا فقط الى 30% من الطاقة الكامنة في مدينة الناصرة وما زال أمامنا طريق طويلة لإتمام المهمة ووضع مدينة الناصرة في المرتبة الأولى على مستوى السياحة في البلاد. الا ان ذلك يحتاج إلى خطط ومشاريع موجودة لكن يجب السعي ليل نهار من اجل اخراجها الى حيز النور.”
حرب عصابات الإجرام
رغم أن آثار الحرب الأخيرة تبدو كارثية، إلا أن السياحة في الناصرة شهدت تراجعًا في العام الأخير لأسباب تتعلق بالأساس بانتشار العنف والجريمة. ازدادت معدلات الجريمة في الناصرة في السنتين الأخيرتين، مما أدى إلى إغلاق العديد من المصالح التجارية والمطاعم في منطقة العين، التي كانت تعج بالمطاعم والمقاهي. الوضع الأمني المتردي وتواطؤ السلطات الإسرائيلية في كبح العنف وانتشار السلاح أدى إلى تدهور الأوضاع السياحية في المدينة. وتقول خلود أن الضربة للقطاع السياحي في الناصرة لم تقتصر على الحرب الأخيرة إنما هي عبارة عن سلسلة ضربات منذ العام الفين وحتى يومنا هذا، كل سنتين لدينا اما حرب او توتر أمني، لكن في السنتين الاخيرتين كان استفحال العنف والجريمة العامل المركزي الذي أضعف السياحة في المدينة، أدى الى اغلاق العديد من المصالح التجارية والمطاعم في منطقة العين على وجه التحديد التي كانت تعج بالمطاعم والمقاهي، لكن اليوم معظم هذه المحال أغلقت أبوابها، ليس بسبب الحرب وإنما بسبب العنف والجريمة والخاوة. وذلك في ظل تقصير او كما تصفه خلود بالتواطؤ من قبل الشرطة والسلطات الاسرائيلية التي لا تقوم بدورها بلجم افة العنف وانتشار السلاح في المجتمع العربي.