37% من “المديونين” في الدولة عرب | المدين العربي يحتاج بالمتوسط إلى 38 سنة لسداد ديونه المتراكمة | والجهل بالمعلومات القانونية والإجرائية يحرم المديون العربي من برامج مساعدة الحكومية للخروج من الضائقة المالية
كشف تقرير مركز أدفا للأبحاث عن معطيات تدعو للقلق حول الديون وإعلان الإفلاس في المجتمع العربي. مُعدة التقرير، د. ميري أندلبرج – سابغ، تقول بأن المجتمع العربي في إسرائيل مُعرّض بشكل خطير للوقوع في الضائقة الاقتصادية، مقارنة بالوضع عند المجتمع اليهودي. وبأن بنية قطاع الائتمان المالي (البنوك، شركات الائتمان وما شابه) تُميّز ضد المواطنين العرب وتدفعهم إلى التورط في عالم السوق السوداء والجريمة المنظمة.
وعن هذا الأمر قالت د. أندلبرج – سابغ لموقع وصلة: “الفروقات الاقتصادية بين المجتمعين اليهودي والعربي لا تنحصر فقط في حجم الديون المتراكمة على العائلات، بل أيضا في قدرة العائلات على التحرر من الديون. لقد أظهر البحث الذي أجريناه في مركز أدفا بأن متوسط الدين للمواطن العربي الموجود في إجراءات إفلاس هو 1.15 مليون شاقل، بينما يصل متوسط الدين للمواطن اليهودي الموجود في إجراءات الإفلاس إلى 1.56 مليون شاقل, لكن المفارقة الكبيرة هي أن المواطن العربي سيحتاج بالمتوسط إلى 462 شهرا (38 سنة) لسداد ديونه، أما المواطن اليهودي فيحتاج إلى 150 شهرا فقط (12 سنة)”
أما عن الفروقات في أنواع الديون بين العرب واليهود، تقول أندلبرج: “أحد الفروق الأساسية في أنواع الديون بين العرب واليهود هو الهدف الأساسي من حصول الدين” بحسب البحث، غالبية الديون المتراكمة على المجتمع العربي هي ديون “استهلاكية”، بينما تتميز الديون في المجتمع اليهودي بأنها لأغراض “سكنية” (قروض إسكان وترميمات وما شابه).
ثمن الـ “شوفوني”
“من واجبنا توجيه اللوم لأنفسنا”، يقول عمر فندي، مدقق حسابات ومستشار مالي. “المستهلك العربي لا يستهلك فقط لنفسه إنما أيضًا من أجل المظاهر والشكليات، وهذه إحدى الكوارث الاجتماعية في مجتمعنا، وخاصة عند الحديث عن الطبقة المتوسطة التي تود أن تتظاهر بأنها في طبقة أعلى مما هي عليه، وأن الرضى الذاتي ينبع من نظرة الآخرين لنا ونحن نمارس الاستهلاك وليس المستهلك نفسه.” فندي يؤكد على ما جاء بالبحث بأن غالبية القروض العربية هي قروض استهلاكية مثل شراء سيارة أو رحلة استجمام أو حفل زفاف، بينما غالبية القروض في المجتمع اليهودي تكون بهدف السكن. هذا يجعل من الديون العربية أصعب، إذ أن تكاليف القروض الاستهلاكية أكبر بثلاث أو أربع مرات من تكاليف القروض السكنية.
ماذا تعني عندما تقول بأن تكاليف القروض الاستهلاكية أكبر من تكاليف القروض السكنية؟
أقصد الفوائد التي ندفعها على القروض. غالبية الناس لا تعي أن أسعار الفائدة على قروض بطاقات الائنمان أو على القروض الصغيرة في البنوك تكون عالية جداً. وهي أعلى بكثير من الفائدة على قروض المشكنتا مثلا.
تهميش المجتمع العربي وشح الخدمات المصرفية
جزء كبير من القروض التي يتورط فيها المجتمع العربي قد يكون بالإمكان تجنبها لو تم تقسيم الموارد بشكل عادل بين العرب واليهود. يشير فندي إلى أن الوضع المزري للمواصلات في البلدات العربية يضطر العائلات لاقتناء عدة سيارات، مما يضيف عبئًا ماليًا إضافيًا عليهم. “المنظومة البنكية همشت المجتمع العربي على مدار عقود من الزمن، حيث انعدمت الخدمات المصرفية والبريدية كليًا في جزء كبير من البلدات العربية. قرية جسر الزرقاء، حتى يومنا هذا، لا تزال دون بنك أو بريد”. هذا ما يفسر أيضًا المعطى الذي جاء في تقرير “أدفا” حول نسبة العائلات العربية التي ليس لديها حساب بنكي (13%) بينما لا تتعدى 1% لدى العائلات اليهودية. كما أن بنك إسرائيل لم يدرج ضمن سلّم أولوياته خدمات مصرفية تتلاءم مع احتياجات المجتمع العربي. إذ أن جزءًا من مسؤولياته عند منحه أموالًا للبنوك هو مراقبة كيفية منح القروض وتطوير المصالح.
“أحد الفروق الأساسية في أنواع الديون بين العرب واليهود هو الهدف الأساسي من حصول الدين” بحسب البحث، غالبية الديون المتراكمة على المجتمع العربي هي ديون “استهلاكية”، بينما تتميز الديون في المجتمع اليهودي بأنها لأغراض “سكنية” – د. ميري أندلبرج
الانزلاق نحو السوق السوداء
يقول المحاضر في علم الاجرام د. وليد حداد، إن الفراغ الذي كان نتيجة غياب البنوك وفقر الخدمات المصرفية في المجتمع العربي، وعدم وجود ائتمان بمستوى جيد، أدى إلى تطور ما يسمى بـ”اقتصاد الظل”. وهو عبارة عن محاولات لملء هذا الفراغ الذي ولدته البنوك من خلال شركات إقراض خاصة تقوم بمنح قروض داخل المجتمع العربي. “قبل تفشي الجريمة المنظمة في مجتمعنا ظهرت العديد من الشركات الخاصة التي كانت تُقدم القروض بأسعار فائدة عالية جدا، ولكن حتى هذه الشركات لم تنجح دائمًا في استرداد أموالها، لأن العقارات والأملاك التي تقوم بالحجز عليها، لا تجد من يقوم بشرائها. هذا الأمر شكل أرضًا خصبة للسوق السوداء. الفرق هنا أن الطرق التي تتبعها السوق السوداء لاسترداد القروض والفوائد الباهظة تعتمد على العنف والتهديد. وبالتالي لديهم قدرة أكبر من البنوك والشركات الخاصة لاسترداد الأموال.
طريق اللاعودة
ظنًا منهم أنها ملاذهم الأخير بعد أن أغلق البنك الباب أمامهم أو تم تقييد حساباتهم، يلجأ بعض المواطنين العرب إلى السوق السوداء. لكنهم سرعان ما يدركون أنهم علقوا في شبكة الصيد وليس طوق النجاة وقد دخلوا إلى مستنقع من الوحل يصعب الخروج منه. يروي لنا د. حداد بعض التجارب لأشخاص دخلوا إلى هذا العالم بمبالغ بسيطة، مطالبون اليوم بتسديد أضعاف مضاعفة لقيمة القرض الذي حصلوا عليه في البداية نتيجة تراكم الفوائد الباهظة. على سبيل المثال، أحد الأشخاص تديّن مبلغ 15 ألف شيكل من السوق السوداء، تفرض عليه دفع فائدة شهرية بقيمة 3 آلاف شيكل، أما القرض يبقى كما هو لا يتغير، أي من الممكن أن يدفع مع نهاية العام 36 ألف شيكل دون أن يقل القرض شيكل واحد.
أحد المتورطين في السوق السوداء، والذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب مفهومة، قال لنا أنه يدفع فائدة شهرية 8000 شاقل على قرض 100 الف شاقل. يعني نسبة الفائدة السنوية تصل إلى 96%. للمقارنة، القانون يمنع أي مؤسسة مالية من فرض نسبة فائدة على القروض تتعدى 20% في السنة.
ويقول حداد: “يصعب على العقل البشري استيعاب هذه الأرقام الرهيبة، وحتى الخبراء الاقتصاديين يصعب عليهم فهم هذه الظاهرة. عندما نسمع عن شخص متورط في السوق السوداء بمبلغ 200 أو 300 ألف، فليس بالضرورة أن يكون هذا المبلغ الذي استلفه في البداية، وإنما الفوائد المضافة. الفرق هنا أن البنك لديه بنود واضحة للعقوبات في حال عدم تسديد المبلغ، ويمكن الاستئناف للمحكمة على هذه البنود، لكن في حالة السوق السوداء لا يوجد محكمة والعقوبة يتم إقرارها وفقًا لمعايير لا تخضع لقانون أو اتفاقيات مكتوبة وإنما بناء على كلام.”
المتورطون نوعان
الصنف الأول: رجال الأعمال الذين لديهم مصالح، قد تكون مطعمًا أو أي مصلحة أخرى، ولا يستطيعون الحصول على قروض من البنك. على سبيل المثال، خلال فترة كورونا، توقفت البنوك عن منح القروض، وكان الأمل لدى هؤلاء أن يعبروا فترة كورونا، فلجأوا إلى السوق السوداء للحصول على قروض، ظنًا منهم أن الأزمة عابرة وسوف يسددون القروض بسرعة، لكن هذا لم يحدث وتورطوا في السوق السوداء بمبالغ كبيرة، وفي بعض الأحيان تصبح منظمات الإجرام شريكة معهم في المصلحة، أو حتى أنهم يتحولون إلى موظفين لديها.
الصنف الثاني: الأشخاص العاديون من الطبقة المتوسطة الذين يريدون أن ينعموا بحياة بمستوى مرتفع، رغم أن دخلهم الشهري لا يسمح بذلك. نراهم يركبون سيارات فاخرة جديدة، ويكثرون من السفر، لكن الحقيقة هي أن جزءًا كبيرًا من هؤلاء الأشخاص مديونين لشركات السيارات ومكاتب السياحة التي تقوم ببيع هذا الدين للسوق السوداء. هذه الطبقة من المهم العمل على توعيتها، ونذكرهم بالمثل العربي الشهير “الي معش بلزمش”.
أن تتورط مع السوق السوداء
حول العواقب التي قد تلحق بمن يتخلف عن دفع الفوائد الشهرية للسوق السوداء، يخبرنا حداد بأن الشخص المدين سيصبح عرضة للتهديدات والضغوطات. تصفية الشخص تقع في المرتبة الأخيرة لأنهم يعلمون أنه في حال تم تصفيته فإن إمكانية استرداد الأموال تصبح أصعب. الضغوطات تكون على شكل حرق ممتلكات، إطلاق نار أو حتى إطلاق نار على القسم السفلي من الجسم. في سبيل التخويف، القتل يكون الحل الأخير في حال كان هناك تحدي من الشخص المدين. وأحيانًا يتم إدخال منظمة إجرام أخرى على الخط، لكي توفر له الحماية من المنظمة الأولى، ثم تتحول الحرب بين منظمات الإجرام على الديون ومن يجبي الديون وما هي حدود كل منظمة.
بعض الأشخاص المدينين تتحول حياتهم إلى جحيم، لا يتمكنون من الخروج من البيت وتُحرق ممتلكاتهم، حتى يصل بهم المطاف أحيانًا إلى دفع مبلغ معين، 20 ألف شيكل على سبيل المثال، كي يتم حمايتهم لمدة نصف سنة من المنظمة المدين لها. وهكذا يصبح الانتقال من منظمة إلى أخرى في هذا العالم. يمكن القول بأنه في لحظة دخول هذا العالم يصبح الخروج منه شبه مستحيل، حيث من الممكن وبعد تسديد جميع الديون التي عليك أن يعودوا لمطالبتك بعد سنة أو سنتين بمبالغ إضافية وكأنك لم تسدد.
إعلان الإفلاس في المجتمع العربي
تُظهر المعطيات التي جاءت في تقرير مركز أدفا فجوة كبيرة بين عدد المديونين العرب وعدد ملفات “إعلان الإفلاس”، وذلك لأسباب بيروقراطية ومادية كانت سائدة حتى عام 2015. في تلك الفترة، كان يتوجب على المدينين دفع رسوم مالية لبدء الإجراءات، والحصول على مساعدة قانونية، وفهم قانوني مسبق للموضوع، وهي أمور غالبًا ما كانت غير متوفرة للعرب نتيجة التهميش، وحواجز اللغة، وانعدام الثقة بالمؤسسات الحكومية. في عام 2015، صدر إجراء مؤقت لتسهيل هذه العملية، وترسخ ذلك في قانون الإعسار والتأهيل الاقتصادي الصادر عام 2018. منذ ذلك الحين، إذا أبلغ المدين سلطة التنفيذ بعدم قدرته على سداد دينه الذي يطالبه به الدائن، فإن السلطة تتعامل مع هذا الإشعار كطلب للقيام بإجراءات الإعسار المالي، حتى لو لم يطلب المدين ذلك مباشرة. يُشترط أن تكون قيمة الدين في عام 2024 بين 55 و160 ألف شيكل.
البحث المذكور لمركز أدفاه يشمل مجموعة من التوصيات الضرورية لتغيير الوضع في المجتمع العربي. “يجب على الحكومة تقديم برامج لتوفير مصادر إقراض عادلة للطبقات الفقيرة، خاصة من خلال المؤسسات المالية غير الربحية”، تقول د. أندلبرج. “ويجب أيضا زيادة الوعي والمعلومات في المجتمع العربي للقضايا المالية والاقتصادية لكي يعرفوا مخاطر الانزلاق للسوق السوداء، ويجب على الهيئات الحكومية وعلى رأسها سلطة الجباية والتنفيذ العمل من أجل توفير كل المعلومات والخدمات التي تُساعد المديونين للتخلص من ديونهم من خلال برامج الدعم المختلفة.
لكن المشكلة تبقى في الديون للسوق السوداء أو الديون العربية بشكل عام التي قد تُباع للسوق السوداء، حيث لن يشملها إجراءات الإعسار والتأهيل. في هذا السياق، يوضح عمر فندي: “إذا كان محمد مديونًا ليوسف، فإن إجراء مليون إعلان إفلاس لن يفيده، وعليه أن يسدد الدين ليوسف. أما إذا كان موشيه مديونًا ليوسف، فالله يعوض يوسف.”