هل يفقد العالم ثقته بالأخضر الأمريكي؟

عُمر فندي، مدقق حسابات ومدير عام المنتدى الاقتصادي العربي
عمر فندي
مدقق حسابات ومستشار مالي


يظلّ الدولار الأمريكي العملة الرئيسية في الأسواق العالمية، لكنه في السنوات الأخيرة بدأ يفقد جزءًا من حصته السوقية لصالح عملات أخرى. هذه الظاهرة لها تداعيات اقتصادية وسياسية عميقة، وذلك يعود إلى عدة عوامل مترابطة. فمن ناحية، يتبع الاحتياطي الفيدرالي سياسات نقدية توسعية تشمل خفض أسعار الفائدة والتيسير الكمي، ما يؤدي إلى زيادة العرض النقدي وضعف الدولار. هذه السياسات تهدف إلى تحفيز الاقتصاد الأمريكي، لكنها في الوقت نفسه تقلل من جاذبية الدولار كعملة احتياطية. 

بالإضافة إلى ذلك، يعاني الاقتصاد الأمريكي من عجز كبير في الميزانية الفيدرالية، ما يزيد من الديون العامة ويؤدي إلى تراجع الثقة المالية. وفي نفس السياق، تستمر الولايات المتحدة في استيراد كميات كبيرة من السلع والخدمات من الخارج، بينما تصدر كميات أقل. هذا يعني أنّ هناك طلبًا مستمرًا على العملات الأجنبية لدفع ثمن الواردات، ما يؤدي إلى زيادة الطلب على هذه العملات وانخفاض الطلب على الدولار الأمريكي. نتيجة لذلك، يتعرض الدولار لضغوط تؤدي إلى تراجع قيمته مقارنة بالعملات الأخرى في الأسواق العالمية. 

تلعب الأزمات الدولية، مثل النزاعات التجارية والسياسية، دورًا كبيرًا في التأثير على الاستقرار الاقتصادي العالمي. العديد من هذه الأزمات أضعف الثقة في الدولار وزاد من التوجه نحو عملات أخرى كملاذات آمنة. على سبيل المثال، زعزع تجميد الولايات المتحدة الأصول الروسية البالغة 300 مليار دولار الثقة في الدولار كعملة آمنة. حتى أن وزيرة الخزانة الأمريكية انتقدت هذا الأمر، عندما صرّحت بأنّ “توظيف الدولار كسلاح عبر استخدام العقوبات الاقتصادية يُشكّل تهديدًا بتقويض هيمنته من خلال دفع الدول للبحث عن بديل غيره”. نتيجة لهذه الأزمات، بدأت الدول والمؤسسات الدولية في تنويع احتياطاتها النقدية بعيدًا عن الدولار، متجهة نحو الذهب أو عملات أخرى، ما يقلل من الطلب على “العملة الخضراء” ويساهم في تراجع قيمتها.

trust dollar

تراجع هيمنة الدولار لا يعني استبداله بالكامل بعملة أخرى تأخذ دوره الحالي في النظام المالي، بل زيادة حصة العملات القوية الأخرى في سلة العملات الاحتياطية لدى البنوك المركزية لدول العالم. اليورو هو من بين هذه العملات التي الذي قد تلعب دورًا في ذلك، إذ يُعتبر العملة الثانية من حيث الأهمية في الاحتياطات الدولية، وتضمّ منطقة اليورو اقتصادات قوية مثل ألمانيا وفرنسا، تُعزّز من قيمته كعملة احتياطية. اليوان الصيني أيضًا من العملات المرشحة بقوة للعب دور هام على الصعيد الدولي، حيث تُعتبر الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وزيادة تأثيرها الاقتصادي العالمي يُعزّز من قوّة عملتها. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الين الياباني عملة قوية ومستقرة، حيث يحتفظ الاقتصاد الياباني بقوته في العديد من القطاعات مثل التكنولوجيا والصناعات الثقيلة رغم التحديات.

ومن الخيارات الأخرى لتنويع الاحتياطات النقدية وتقليل هيمنة الدولار، توجّه العديد من الدول والمؤسسات المالية حول العالم نحو الذهب، الذي يُعتبر أحد الملاذات المالية الآمنة عبر التاريخ، ونحو العملات الرقمية أيضًا، التي أثبتت، رغم حداثتها، أهليتها للثقة بفضل اعتمادها على تقنية “سلسلة الكتل” اللامركزية، التي تتميز بالأمان والشفافية، وتُقدّم فرصًا استثماريّة جديدة.

وعلينا أيضًا ألّا ننسى ارتباط هينمة الدولار طويلًا بالنفط . لذلك، فإنّ سياسة بيع “الذهب الأسود” بعملات أخرى غير الدولار، والتي حاول صدام حسين تنفيذها قبل الإطاحة به، ستسهم في هزّ عرش هذه العملة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، بيع الغاز الروسي للدول الأوروبيّة بالروبل على إثر الحرب في أوكرانيا، والدعوة إلى تسعير البترول الخليجي باليوان (أو ما يُعرَف بالبترو-يوان كمكافئ للبترو- دولار)، كون الصين هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم.

بينما يواجه الدولار الأمريكي تحديات كبيرة قد تؤدي إلى تراجع قيمته، هناك عوامل رئيسية تدعم استقراره على المدى الطويل، من بينها قوة الاقتصاد الأمريكي، والاستقرار السياسي، وفعاليّة المؤسسات الأمريكية. لذا من المهم مراقبة التطورات الاقتصادية والسياسية لفهم التأثيرات المحتملة على قيمته.

*المقال يُعبر عن رأي الكاتب فقط ولا يجوز اعتباره بأي شكل من الأشكال توصية أو استشارة مالية

مقالات مختارة

Skip to content