انطباعات عائد من أدغال التيك توك: تورّطت وحمّلت التطبيق الصيني، وهذا ما تعلّمته بعدما قضيتُ ساعات طويلة أُقلِّب بين مقاطع الفيديو وأشاهد لايفات لا فائدة منها

أيقون موقع وصلة Wasla
أمير حمد

tiktok logo

منذ ظهوره قبل بضع سنوات، لا يزال تطبيق تيك توك مالئ الدنيا وشاغل الناس. فهو التطبيق الأسرع نموًا، إذ حُمّل مليارات المرات، ويمتلك مليار ونصف مستخدم نشط. لم تثر أي منصة للتواصل الاجتماعي ما أثارته هذه المنصة، من اتّهامها باستهداف الأطفال وتدمير الصحة النفسية للمراهقين، والتشجيع على العنف والانتحار، والتجسّس على المستخدمين، وبأنّها أداة بيد الحزب الشيوعي الصيني لاستهداف الأمن القومي لدول العالم، وبكونه يُبرز عمدًا المحتوى “التافه” “الجذّاب” ويقمع المحتوى “الجاد” و”القبيح”. حجبته العديد من الدول كالهند، والأردن، وتناقش العديد من برلمانات الدول التي “تدعم حرية التعبير” حجبه، كالولايات المتحدة، ويواجه العديد من القضايا القانونية في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. فما قصّة هذا التطبيق الصيني؟ 

 أثناء فترة إغلاقات كورونا، حمّلتُ هذا التطبيق لأوّل مرة، مثلي مثل مئات الملايين من الناس حول العالم. كان الناس وقتها يشعرون بالقلق والملل والوحدة، فوجدوا في هذا التطبيق خفيف الظلّ عزاءً وتسليةً و”مجتمعًا”. لكنني بعد ما يقارب الشهر من استعماله، حذفته، لأنّه يمتلك قدرةً سحريةً حقًا على سرقة الوقت. لا تكاد تبدأ بالانغماس في مقاطعه التي قد لا تتعدّى مدّة واحدها 20 ثانية، حتّى تكون قد حرقت دون أن تشعر ساعتين من وقتك. ولم أُعِد تحميله سوى مؤخّرًا، بسبب مهمّة “استقصائية” لي في أدغال التيك توك، وفضول لفكّ لغز خوارزمياته، والتعرّف على أساليب الربح الجديدة عبره، كالبثوث المباشرة “لايفات” وما يرافقها من كلمات غريبة عليّ، كالتكبيس، والهدايا، والنقاط، والأسد. خصوصًا بعد أن سمعت أنّ العديد من مؤثّري التيك توك حولنا، حقّقوا ثروات من اللايفات، سواءً في القدس أو الضفة أو مدن الداخل، رغم ما قد يرافق ذلك من إشاعات. وفي العالم العربي مثلًا، نقلت قناة الجزيرة في برنامجها شبكات أنّ “المؤثّرة” التونسية على التيك توك، ضحى العريبي، تتقاضى أكثر من 7000 دولار على ساعة البث الواحدة على التيك توك، وسيصبح هذا الرقم أشدّ تأثيرًا حين نعلم أنّ الأستاذ الجامعي في تونس يصل أجره الشهريّ في أحسن الأحوال إلى 800 دولار في الشهر، والطبيب الاستشاري في مشفى حكومي يصل إلى 1000 دولار. فيبدو أنّ الأمر حقيقيّ إذن، ولو رافقته بعض المبالغات.

هذه هي الانطباعات والأفكار التي عدتُ بها بعد رحلتي الطويلة مؤخرًا في تيك توك:

مقارنة مع وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى

يتميّز تيك توك عن باقي وسائل التواصل الاجتماعي بأنّه ركّز منذ البداية على الفيديوهات القصيرة، الممتعة، الراقصة، والتي تتناغم فيها الموسيقى مع حركات الجسد. استهدف التطبيق جيل المراهقين الذين يرغبون في حيّز يميّزهم عن باقي مستخدمي وسائل التواصل الأكبر سنًا، أو التي غدت قديمة في نظرهم وغير عصرية. لكنّ صنّاع محتواه، أو مستخدميه سرعان ما أصبحوا من جميع الفئات العمرية والخلفيات الثقافية، بسبب سهولة استخدامه، وتركيزه على المحتوى الخاص بك  For You.

وإذا قمنا بعمل مقارنة سريعة مثلًا بين مجموعة من وسائل التواصل الاجتماعي مع تيك توك، نجد أنّ المحتوى الأبرز على فيسبوك هو البوستات، أي نصوص مكتوبة تتطلب بذل جهدٍ، ولو قليل، في قراءتها، وعادة ما ستشاهد منشورات أفراد عائلتك وأصدقائك والصفحات التي تتابعها. أمّا انستغرام فقد كان في الأصل تطبيقًا للصور فقط، وحتى فيديوهاته أو ستورياته قبل ظهور التيك توك كانت تفتقد للحيوية المطلوبة، وتركّز على الحياة الشخصية لصانعيها.

وتطبيق تويتر، خصوصًا قبل إيلون ماسك، كان محدودًا للغاية، بتغريدات جديّةٍ أكثر من اللازم، ويستقطب نخبة معينة، كرؤساء الدول والشركات والكتّاب والمثقفين. وتطبيق سناب شات، رغم قربه إلى حد ما من تيك توك، وثورة “فلاتر” الوجه لديه، كان يعتمد بشكل رئيسي على القصص الشخصية stories التي تختفي بعد ٢٤ ساعة، وهي أيضًا مقيّدة بالأشخاص الذين تتابعهم، ولم يكن بنفس سهولة الاستخدام التي تُميّز تيك توك.

لكنّ تيك توك تميز عنهم كما قلنا بالمحتوى الحيويّ الراقص، والتريندات، أي ما يُهمّ هو التريند المشترك بين العديد من صُنّاع المحتوى وطريقة تأديته الخاصة بكل صانع، أكثر من التركيز على القصص الشخصية المحدودة. والمشاركة بالتريند هو الشعور بالانتماء لهذه المجموعة التي قامت به، والرغبة بالانقياد مع التيار الجماعي، أو “القطيع”، والتقليد الذي يُنقِذ المقلّد من وحشة الاختلاف.
شاهدوا هذا المقطع من “التريند الهندي” الذي انتشر قبل فترة كالنار في الهشيم بين مؤثّري التيك توك من جميع الجنسيات:

تريند هندي
التريند الهندي- المصدر: صفحة شهد حسن على تيك توك

 كذلك، فإنّ التطبيق بارع للغاية في توقع ما ترغب في مشاهدته، إذ تتميّز خوارزمياته المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وعلى جمع كميات هائلة من البيانات حتّى لو لم يوافق المستخدمون، بتفوّقها على باقي وسائل التواصل. خوارزمية تيك توك تجعل مثلًا “ريلز” شركة ميتا أشبه بلعبة أطفال. لن تشاهد نفس الفيديو مرتين في اقتراحات التيك توك، بينما ستشاهده مرارًا في اقتراحات الانستغرام.

وهذه الخوارزمية تعرفك أكثر من نفسك (حتّى أنّها تُحلّل وجهك وتصنّفه ضمن فئات معيّنة)، تُمطرك حقًا بما ترغب في مشاهدته، حتّى ولو لم تكن تتابع صانع المحتوى. وبين الفينة والأخرى، قد تجرّب معك مقطع فيديو من فئة أخرى، تتوقّع أنّه قد ينال إعجابك. فإذا كنتَ تشاهد عادة مقاطع كرة القدم، قد يظهر لك فيديو عن السيارات، وإذا أعجبك، ستشاهد المزيد من مقاطع السيارات أثناء تصفحك، لتحقيق الهدف الأهمّ للشركة، كما بيّنت وثيقة مسرّبة، وهو زيادة الوقت الذي يقضيه المستخدمون عليه. والتطبيق دائم التطوّر والتعلّم، بأفكار وتريندات جديدة باستمرارٍ، وابتكارات من التطبيق نفسه، كفكرة البثوث المباشرة، والهدايا المقدّمة من المتابعين.

هكذا يُحفّز هذا التطبيق الإدمان واستهلاك الوقت، ومكافآت الدوبامين، إذ دائمًا ما ستشاهد فيديو جديد يلفت انتباهك. كأنّك كلّما حرّكت إصبعك على الشاشة، تنتظر مفاجأة جديدة سيظهرها لك التطبيق.

أيضًا، يختلف التيك توك عن فيديوهات اليوتيوب العادية (رغم تشابهه مع YouTube Shorts التي تحاول مواكبة التيك توك) ومسلسلات نتفليكس، بأنّك في هذين الموقعين، تكون محاطًا بعدد لانهائي من الفيديوهات والمسلسلات، التي تفصلك عنها مسافة كبيرة في العالم الرقميّ وحدة قياسها “الضغطة”. فقبل أن تختار أحدها وتضغط عليه، يدخل دماغك في عملية فلترة مرهقة ليختار الفيديو أو المسلسل الذي ترغب بمشاهدته بين العديد من الخيارات.

أمّا التيك توك، فهو مناسب لحالات الاسترخاء بعد يوم عمل شاق، يراعي كسلك حتّى النهاية، فيعفيك (بريحك) من تعب الاختيار، من قلق الحرية، فما عليك سوى أن تحرّك إصبعك على الشاشة لتستقبل فيديوهات التيك التوك التي لا تنتهي، كهدايا من الغيب. لا تحتاج متابعة المقاطع عليه أيّ تركيز منك، فحتى أبسط الأفلام في حبكتها تتطلّب تركيزًا من المشاهد، بينما تستطيع، وأنت شبه نائم في سريرك، أن تقلّب مسترخيًا بين الفيديوهات لفترة طويلة حتى تسقط في شراك النوم.

كذلك، ما يُميّز مقاطع التيك توك هو “الراهنيّة”، أنتَ دائمًا UP TO DATE، خصوصًا أثناء البثوث المباشرة، وحتى باقي المقاطع تكون عادة منتجة في اليوم ذاته، بسبب سرعة صنعها وقصر حجمها، مقارنة مع “فلوغات” أو تحديات اليوتيوب مثلًا، التي تتطلب وقتًا أطول في التصوير، وتنقلًا من مكانٍ إلى آخر أحيانًا، ثمّ منتجة الحلقات ورفعها لاحقًا.

حافز صانع المحتوى متنوّع
أحيانًا تكون الرغبة في صنع المحتوى هو الشعور بالانتماء، حيث يشعر مؤثّر التيك توك، والذي ربما عانى سابقًا من الوحدة والنبذ، بأنّه يندمج الآن في مجتمع يشبهه، يتشارك معه الاهتمامات، أو قد يشعر أنّه ينتمي إلى عائلة تتمحور حوله هي آلاف متابعيه، أو بتعبيرٍ آخر مستخدمٍ أيضًا في عالم السوشال ميديا، هم “جيشه” الذي يشعره بنوع من أمان عاطفي.

لكنّ الحافز المالي أيضًا له تأثيرٌ بالغٌ. ففي العودة إلى المؤثرة التونسيّة، ضحى العريبي، التي ذكرناها في البداية، فقد أفادت أثناء استضافتها في أحد البرامج التلفزيونية”: “تحصيلي العلمي هو الصف التاسع واشتغلت في محل مُرطّبات ورغم ذلك نجحتُ في حياتي وأصبحتُ مشهورة في الوطن العربي… أتقاضى أكثر من 7000 دولار على ساعة البث الواحدة على التيك توك”.

كثيرًا ما سمعنا عن الحلم الأمريكي، عن أرض الفرص التي تجعل أيًّا من كان، مهما كان عرقه أو خلفيته الثقافية أو العلمية يصبح ناجحًا وثريًا، والحلم، هو وقود التيك التوك، ما يجعل طاحونة مقاطع الفيديو تعمل بلا استمرار، فيقوم آلاف البشر بصنع المحتوى بهدف أن يصبحوا هم التريند، أن يشتهروا ويُحبّهم المتابعون فيقدموا لهم هدايا مالية، وبأن تتواصل معهم الشركات كي يُروّجوا لمنتجاتها، أو أن يحصلوا على دعوة لافتتاح أحد

tiktok live 2
من أحد لايفات التحديات، المصدر: تيك توك

المحلّات التجارية. لكن، في أدغال التيك توك هذه، حيث المنافسة شرسة جدًا، والبقاء للأمتع، فإنّ ما تطحنه طاحونة التيك توك هو الصحّة النفسية لصانعي المحتوى هؤلاء، المراهقين في أغلبهم، ما يُعمّق وحدتهم عند الفشل، التي هربوا منها إلى تيك توك، فوجدوها بانتظارهم وقد تضاعفت.

أحيانًا يرغب الناس في الشهرة فقط، فقد تكون صانع التريند الجديد دون أن تدري. قد تنفجر شهرتك بين ليلة وضحاها، وتغدو مشهورًا لبعض الوقت، حتّى يبتلع تريندٌ جديد تريندك القديم. لكن، حتّى العديد من الممثلين ذي الشعبية الواسعة في العالم العربي يدخلون في بثوث مباشرة وتحدّيات لجمع الأموال.
شاهدوا هذا الفيديو لأحد الممثلين السوريين وهو يتحدّث بشغف كبير عن التيك توك، كأنّه يصف حبيبته.

tiktok
مجموعة من الممثلات السوريات في أحد التحديات- المصدر: تيك توك

البثوث المباشرة والجولات

تنقسم البثوث المباشرة إلى قسمين، إحداها فردي، والآخر جماعي. قد يكون موضوع البثّ كلّ شيء… ولا شيء. من الممكن أن يناقش البعض مواضيع سياسية واجتماعية، أو يدردش مع المتابعين عبر قراءة تعليقاتهم وإجابة أسئلتهم والردّ على المنتقدين. قد يفتح الشخص بثًا مباشرًا أثناء جلوسه مع عائلته أو أصدقائه وحديثه معهم، أو عند الأكل أو وضع المكياج، أو حتى بينما يعمل.

البثوث المباشرة (الفردية أو الجماعية) هي وسيلة الربح الوحيدة من التيك توك في منطقتنا بطريقة مباشرة (يوجد طرق غير مباشرة للربح، كإعلانات المنتجات أثناء البثوث أو بمقاطع الفيديو العادية). وللدقّة أكثر، فالدعم المالي الذي يقدّمه المشاهدون لصاحب البث عبر هدايا إلكترونيّة هو وسيلة الربح الوحيدة من التيك توك. لا يهمّ عدد المشاهدات أو الإعجابات بالبث المباشر (أو بمقاطع الفيديو) بكمية الأموال التي يحصل عليها صانع البث (بالطبع، كلّما ازداد عدد المشاهدات ازداد احتمال أن يدعمه مشاهدٌ بهدية مالية). في مناطق أخرى حول العالم، يكون الربح بطرق أخرى، مثل عدد المشاهدات على المقاطع، لا الدعم بالهدايا، كما هي طريقة الربح من اليوتيوب.

يوجد العديد من الهدايا في بثوث التيك توك، مثل القلب والوردة والعطر والقبعة والسيارة والأسد، ولكلّ منها قيمة بعدد نقاط معيّن، وكلّ 100 نقطة يبلغ قيمتها عادة 1 دولار أو أكثر بحسب المنطقة الجغرافية. فالأسد، أغلى الهدايا، تبلغ قيمته 30 ألف نقطة، ويُقدَّر سعره بالعملات الحقيقية بين 300-400 دولار. فإذا أعجبني مثلًا محتوى أحد البثوث المباشرة، وقرّرت دعمه ماليًا، أدفع من جيبي 318 دولار سعر الأسد (أو أي هديّة أخرى أرخص ثمنًا)، و”أهديه” لصاحب البث. لكنّ المبلغ لا يدخل حسابه بالكامل، بل يتقاسمه مع شركة تيك توك، التي تنال عادة أكثر من نصف الأموال، أو كما صرّح أحد المؤثّرين من القدس في لقاءٍ معه أنّ حصّة التيك توك هي 60% والباقي له (150 دولار يدخل حسابه إذا أهديته أسدًا).

(أتذكّر هنا قصيدة قديمة لمحمود درويش عنوانها “أُهديها غزالًا”، لو كان المرحوم حيًّا بيننا اليوم، لما رضيت حبيبته أن يهديها غزالًا، بل أسدًا).

gifts tiktok
قيمة نقاط الهدايا- مصدر الصورة: أحد تحديات التيك توك

أثناء البثوث المباشرة، الفرديّة أو الجماعيّة، الكلمة السحريّة التي ستسمعونها أكثر من غيرها هي “كبّس” أو “تكبيس”، و”شيّر”. “التكبيس” هو ضغط المشاهد ضغطات متتالية بإصبعه على الشاشة خلال البثّ المباشر. وبينما يُكَبِّسُ المتابع تظهر قلوبٌ حمراء، وكلّما كبّستَ أكثر، وكبّس غيرك من المشاهدين، ارتفعت تسجيلات الإعجاب الظاهر عدّادها في أعلى شاشة البث. وهذا الفعل، يهدف إلى زيادة شعبيّة البث، ووصوله بالتالي إلى أعداد أكبر من المتصفّحين عبر التطبيق. أمّا “التشيير” Share فيهدف إلى أن يُشارك المشاهد البثّ المباشر مع عدد معيّن من أصدقائه في التيك توك (14 شخص كلّ مرّة). وكما ذكرنا سابقًا، فالهدايا هي مصدر الدخل المالي فقط، ولو وصل التكبيس إلى ملايين الكبسات، فإنّ ذلك لا يُطعِم خبزًا إلّا حين يُقدّم المشاهدون الهدايا، وتُسهم المشاركات والإعجابات هذه بزيادة نسبة المشاهدين وبالتالي زيادة احتماليّة تقديم الهدايا.

عادةً ما يتخلّل البثوث المباشرة الجماعيّة تحدّيات، بين اثنين، أو فريقين. التحديات تتكوّن من جولات، وكلّ جولة لها مدّة زمنيّة (5 دقائق) عادةً، ويكون لكلّ متحدّي نتيجة Score فوق صورته، وكلّما ازداد التكبيس في صفحة البثّ المباشرة لأحد المتحدّين، كلّما ازدادت نتيجته، وعندما ينتهي وقت الجولة يكون الفائز صاحب النتيجة الأعلى. وكما سبق وكرّرنا، فالهدايا المالية هي مصدر الأموال فقط، فلو فاز أحد الطرفين بالتكبيس فقط، فلن يستطيع أن يُدخِل “نصره” هذا إلى حسابه البنكيّ، إلّا إذا قدّم له أحد مشاهدي التحدّي هدية. والهدايا أيضًا ترفع النتيجة Score بقيمة أكبر ممّا يرفعه التكبيس وحده.

من الممكن أن يتحدّى المؤثّر مؤثًّرا آخر يعرفه، أو يقبل تحدّيات من أشخاصٍ لا يعرفهم. وخلال التحديات، يحاول كلّ متحدٍّ أن يبارز الآخر بالكلام وينتصر عليه بالألفاظ. قد يتبادلان الإهانات، والشتائم، والتلميحات (وحتّى التصريحات) الجنسية، خصوصًا إذا كان التحدّي بين رجل وامرأة، والغزل وحتّى الاعتراف بالحبّ. وأثناء ذلك أيضًا، يوجّهون حديثهم لداعميهم (يترجّونهم عادةً) لتعزيز التكبيس، والدعم، والهدايا، ومشاركة البث.

تتخلّل التحدّيات غرائب سورياليّة عديدة. ففي هذه “الواقعيّة السحريّة”، قد يقوم الأشخاص بأيّ شيءٍ للفوز والحصول على الهدايا. قد يُهين الشخص نفسه، أو يتحوّل طوال البثّ إلى سمكة مردّدًا “أنا سمكة… أنا سمكة”، مؤكّدًا بالفعل النظريّة العلميّة التي تُرجع أصل الحياة إلى البحر. ويحكم الرابح في التحدّي على الخاسر، في كثيرٍ من الأحيان، بعقابٍ يحطّ من قدره. مثلًا، في أحد التحديات التي شاهدتُها، تفرك الخاسرة عينيها بالفلفل الحارّ، وسط دموعها وصراخ الفائزة فيها: “افركي”. وفي تحدّياتٍ أخرى، يُلطّخ الخاسر وجهه بالطحين والزيت، أو يفرك عينيه بمعجون الأسنان، أو يأكل دجاجة نيئة!

وحتّى في البثوث الفرديّة أيضًا، يُهين العديد من الناس أنفسهم بالترجّي وإثارة شفقة المتابعين وطلب الدعم المالي بإلحاح. قد يدّعي العديد منهم المرض، أو الوقوع في مشكلة كبيرة، لينجح تسوّلهم الرقميّ هذا. على سبيل المثال، تمكّن أحد صنّاع المحتوى أن يوهم متابعيه بأنّه مُصاب بالتوحّد خلال العديد من المقاطع التي أنتجها، وتمكّن من جمع الكثير من الأموال التي مصدرها تعاطفهم.

يغدو التيك توك إذن مسرحًا للقسوة، يطفو فوقه العنف المكبوت مرتديًا قناع التحدّيات واللعب والترفيه والفيديوهات الراقصة، أو سوق نخاسة حديث تُباع عليه كرامة الجسد الإنسانيّ. ولنا في المقاطع التي صنعها جنود إسرائيليون يتفاخرون بعنفهم في غزّة دليل على القسوة المنفلتة.

هذا العنف موجود داخلنا منذ زمن والدنا آدم، وقد ساعدت وسائل التواصل بشكل عام على إظهاره، حيث تغمر حمّى الرغبة في جمع المشاهدات الجميع، لكنّ باقي وسائل التواصل الاجتماعي تأخذ إجراءات أكثر صرامة لمنع المحتويات العنيفة والداعية لإيذاء النفس والغير، بينما يخلق التيك توك بيئة خصبة لانتشار هذا المحتوى العنيف، ولا يكافحه إلّا على مضض، عند وقوع فضيحة ما، طالما أنه يجلب متابعات، ومستخدمين “نشطين”.

لكن، لماذا يقوم المتابعون بإرسال هدايا مالية لصنّاع البثوث المباشرة؟
أبسط سبب للدعم المالي هو أنّ الداعم أحبّ المحتوى الذي يقدمه صاحب البث، ويرغب في دعمه للاستمرار في تقديم محتواه.

 لكن، قد توجد أسباب أخرى عديدة ومعقدة. كأن يكون للأمر علاقة بـ”عبادة المشاهير”، أو الوقوع في علاقة وهميّة من “الحبّ” أو “الصداقة” معهم. ألم يشعر ملايين المتابعين لمسلسل فريندز أنّ الشخصيات الستة هم أصدقاؤهم فعلًا، فلا شكّ أنّ هذا التأثير الوهميّ سيزداد، كلما شاهدت بثوثًا أكثر لأحد الأشخاص، وأدخلك حياته وحتّى غرفة نومه أحيانًا، وشاركك روتين وضع المكياج، و”سهرت” معه أمام مسبح بيته، أو “ذهبت” إلى إجازة باذخة معه إلى المالديف، وإذا قرأ  تعليقك أو شكرك على هديّتك وكال لك المديح “كفو يا…”. أو كما قالت إحدى المشهورات في الناصرة لمتابعيها، “بدي أروح أسوي قهوة ولما أرجع بدي نكون واصلين 70 ألف لآخدكم تسهروا معي بالساحة… تكبيس!”، وبالفعل عندما عادت وصل التكبيس إلى أكثر من 80 ألف، وسهر المتابعون حقًا معها في الساحة.

ألّا يُذكّرنا هذا التماهي مع المشاهير بالحدث العجيب الذي وقع عام 2018، بعد أن ذكرت مجلة فوربس الأمريكية، أنّ كايلي جينر، الفرد الأصغر ضمن العائلة الأشهر في العالم “عائلة كارداشيان”، تقترب من أن تصبح أصغر مليارديرة في العالم في عمر العشرين، فأطلق معجبوها حملة لجمع التبرعات على موقع GoFundMe، ليهدوها ملايين الدولارات اللازمة حتّى تدخل الفتاة “المسكينة” نادي أصحاب المليارات؟

لكنّ هذه الظاهرة ليست فقط علاقة باتجاه واحد، من “الملك-المشهور” إلى “جيش-المتابعين”، بل إنّه ديلاكتيك جدلي، علاقة “السيّد والعبد” الهيجليّة تأخذ هنا بعدًا آخر، حيث يتحكّم الجمهور بهذا المتابع، عن طريق طلبات معينة منه، ولو بطريقة غير مباشرة، أو سؤاله أن يشارك معلومات خاصّة مقابل الدعم، ما يذكّرنا بطريقة أو بأخرى بموقع أونلي فانز الخاصّ بـ”ترفيه البالغين”. ويمكن للمشاهد أيضًا الانقلاب على صانع المحتوى ومقاطعته إذا بدر منه موقف لم يعجبه. ألا نشعر في كثير من الأحيان أنّ المشاهير يقدّمون محتوى داعم لغزة مثلًا، ركوبًا للتريند، أو خوفًا من حملات المقاطعة ضدّهم من جمهورهم، كالحملة الأخيرة لحجب المؤثّرين الصامتين؟

وأحيانًا، يأخذ هذا الدعم شكلًا وطنيًا، إذا حصل تحدّي مثلًا بين صانعَي محتوى مشهورَين من جنسيتين مختلفتين، خصوصًا إذا كان يوجد بين البلدين توتر سياسي، كالذي بين المغرب والجزائر مثلًا، ما يذكّرنا ببرامج المواهب، عندما يصوّت مشاهدٌ لمواطنه قبيح الصوت لينتصر على المغني من الجنسية الأخرى، ذي الصوت الأجمل.

هنا يشارك المشاهد مباشرة في هذا “الفيلم” الذي يشاهده، ويجعل “البطل” الخيّر في نظره ينتصر بالتكبيس، أو بالهدايا المدفوعة الثمن. أو قد ينتقم المشاهد من مؤثّر تيك توك أهان زميله المؤثّر الآخر بعد الخسارة، أو أصابه الغرور، فيرغب الداعم “بتكسير رأسه الكبير”.

في بعض الأحيان، قد يكون الدعم حقًّا لأسباب إنسانيّة. نشاهد بثوثًا مباشرة لأشخاصٍ من غزة يحاولون الحصول على دعم ماليّ من متابعيهم، لشراء تنسيق الخروج عبر معبر رفح، الذي يتجاوز سعره في كثير من الأحيان 5000 دولار للفرد الواحد. وهو ما قد يكون أكثر فاعليّة (في حالة توفّر الإنترنت اللازم لبدء البث طبعًا) من جمع التبرّعات عبر منصات التمويل الجماعي CROWDFUNDING  مثل GoFundMe، لأنّ الصورة الصامتة على تلك المواقع، تغدو في التيك توك حية ومباشرة ومؤثرة إنسانيًا بشكل أكبر. ويستطيع المتابعون أن يستفسروا من أصحاب البثّ عمّا يدور في خلدهم، وأن يحاولوا مثلًا التأكد من صدق صاحب الحاجة.

وبالحديث السابق عن البذخ، بيّنت إحدى وثائق تيك توك المسربة كيف تُقلّل خوارزميّات التطبيق من ظهور المحتوى الذين يعتبرونه “قبيحًا” أو فقيرًا، كأن يمتلك صانع المحتوى أسنانًا متفرقة، أو وزنًا زائدًا، أو تجاعيد عديدة، أو أن تكون خلفية الفيديو غير “جميلة”، أو رثة، أو مليئة بالشقوق. وقد أصدرت الشركة بيانًا، بعد التسريب، بأنّها تراجعت عن هذه المعايير.

خلاصة

تيك توك لا يتحمل وحده المسؤولية عن سلبيّاته، فبالنهاية، نحن من يضع المحتوى عليه، ونحن من نقدّم له وقتنا ونَضَع أيّامنا في أيدي خوارزمياته، فالتيك توك ليس حاجزًا عسكريًا يقطف رغمًا عنّا زهرة ساعاتنا. 

نحن تطبيق تيك توك ولو أفزعنا ذلك، وها أنا الآن أحذف تطبيق تيك توك من جديد.

 

مقالات مختارة

Skip to content