هزة عنيفة ضربت الأسواق العالمية يوم الإثنين الماضي 5-8-2024، حيث انهارت العديد من المؤشرات الرئيسية، مذكّرةً بمجموعة من الانهيارات المالية التي حدّدت تاريخ عصرنا. وارتبط هذا الانهيار المفاجئ بالعديد من العوامل، مثل التوقعات بخفض نسبة الفائدة من قبل البنك المركزي الأمريكي (الاحتياطي الفيدرالي)، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية. لكن دور البطولة في هذه الدراما المالية كان من نصيب الين الياباني، فما علاقة عملة إحدى الدول الأكثر “مسالمةً” في العالم بما حدث؟
على مدار تاريخه المعاصر، دوّخ الاقتصاد الياباني علماء الاقتصاد، فلم تستطع كافة أدواتهم المالية أن تفهمه كما يجب. ففي اليابان، تنخفض أسعار الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر، وأحيانًا إلى مستويات سالبة، بغضّ النظر عمّا يحدث في العالم. ففي الوقت الذي كانت فيه البنوك المركزية العالمية، وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي، ترفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، كان بنك اليابان مصممًا على موقفه من إبقاء سعر الفائدة في مستويات قريبة من الصفر. فما السبب؟
باختصار، لأن اليابان كانت تعاني من مشكلة مزمنة، وهي عدم ارتفاع الأسعار! نعم، كان التضخم قريبًا من الصفر، وأحيانًا كان ينخفض، وهذه كارثة للاقتصاد لأن النمو الاقتصادي يحتاج إلى معدل معقول من التضخم الصحي. اليابان كانت تعاني من صدمة الأزمة المالية العنيفة التي تعرضت لها في بداية التسعينات، مع انفجار فقاعة الأصول العقارية والمالية التي عانت من تبعاتها على مدار عشر سنوات، يطلق عليها في التاريخ الاقتصادي “العقد الضائع في اليابان”. خلال تلك الأزمة، انخفضت قيمة العقارات في اليابان بنسبة 87%، وتسبّب ذلك في خسارة اليابان لثروات تعادل الناتج المحلي الإجمالي لها على مدار ثلاث سنوات، حتّى أنّها وُصِفَت من قبل الخبراء بأنها أكبر خسارة للثروة في تاريخ البشرية التي عانى منها أي بلد في فترةٍ ليست فترة حرب.
بعد هذه الأزمة خلال العقد الضائع، ظهرت نسخة مختلفة من المواطن الياباني. اليابانيون الذين كانوا في الثمانينات من أكثر الشعوب إنفاقًا في العالم، أصبحوا يميلون بشدة إلى الادخار. ومن أجل تشجيع اليابانيين على إنفاق أموالهم سواء في صورة إنفاق أو استثمار، عمل بنك اليابان المركزي على خفض معدل الفائدة الرئيسي على القروض قصيرة الأجل إلى 0% في الربع الأول من عام 1999. ومنذ أواخر التسعينات وحتى اليوم، ظل البنك المركزي الياباني متمسكًا بموقفه، حيث أبقى معدلات الفائدة لديه قريبةً من الصفر.
في مقابل الفائدة القريبة من الصفر في اليابان، كان الفيدرالي الأمريكي يرفع أسعار الفائدة لديه، وهو ما تسبب في ارتفاع أسعار الفائدة في كل مكان تقريبًا باستثناء اليابان. ومن هنا بدأت بوادر الأزمة التي ظهرت مؤخرًا. إحدى العمليات المالية التي ازدهرت نتيجة للتباين بين أسعار الفائدة، تسمى “الكاري تريد” Carry Trade، وهي أنّ المستثمر بقوم باقتراض المال من دولة تمتلك سعر فائدة منخفض (بعملة هذا البلد)، ويقوم بالاستثمار في دولة سعر الفائدة فيها أعلى (عبر شراء عملة البلد الذي ينوي الاستثمار فيه بواسطة ما اقترضه من أموال بعملة البلد ذي الفائدة المنخفضة)، وبالتالي يكسب الفرق بين المعدلين.
ولكن هذه الحركة تحمل خطرًا كبيرًا لأنها تعتمد على استقرار سعر الصرف. فإذا تغيّر سعر الصرف بين العملة التي اقترض بها، والعملة التي استثمر بواسطتها، فإنّ خسائر فادحة تصيبه.
في السنوات الأخيرة، وخصوصًا منذ أن بدأ الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة، أصبحت هذه العملية مغرية جدًا، لتحقيق أرباح “سهلة”، ما جعل العديد من اللاعبين في السوق يدخلون هذه اللعبة الخطرة. والسبب الذي جعل الين الياباني هو العملة المفضلة للاستخدام هو أنه عملة احتياطية عالمية موثوقة ومستقرة إلى حد كبير، بالإضافة إلى أنّ معدلات الفائدة عليه كانت منخفضة جدًا، ما جعل الين هو العملة الأرخص التي يتم الاقتراض بها.
وبالمقابل، كان الدولار الأمريكي من أكثر العملات التي يتمّ الاستثمار فيها، عبر شراء دولارات بواسطة عملة الين، نتيجة لارتفاع أسعار الفائدة الكبير في الولايات المتحدة. وببساطة، فعند القيام بذلك، يكون المسثتمر هو مقترض ومقرض في الوقت ذاته، أي “يقترض” من اليابان بفائدة صفرية، ليُقرِض الولايات المتحدة مقابل استرداد أمواله التي أقرضها لهم بربح تبلغ قيمته 4%، وهو سعر الفائدة في أمريكا. بعدها، يعيد نفس الأموال (بالين) التي اقترضها إلى اليابان دون دفع فائدة، ويضع في جيبه ربحًا قيمته 4%.
إليكم هذا المثال: لنفترض أن مستثمرًا اقترض 10 ملايين ين ياباني بفائدة صفر، ثم قام بتحويلها إلى 62,500 ألف دولار بسعر صرف ¥160 = $1، حتّى يستطيع استثمار هذا المبلغ في أذون الخزانة الأمريكية بفائدة 4%. عندما يحين موعد استرداد المبلغ بعد أجل الاستحقاق، أي بعد 6 أشهر، يحصل المستثمر على المبلغ الأصلي الذي استثمره وهو 62,500 دولار + 2,500 دولار (فائدة 4%) = 65,000 دولار.
بعد ذلك، سيقوم بتحويل مبلغ 62,500 دولار إلى 10 مليون ين، ليسدد دينه إلى اليابان، محققًا ربحًا قيمته 2,500 دولار. ويلزم ذلك بقاء سعر الصرف عند بداية العملية ثابتًا دون أن يتغير عند انتهائها.
لكن، لو أنّ سعر صرف الين أمام الدولار ارتفع بعد الاستثمار بأذونات الخزانة الأمريكية، فلم يعد سعر صرف ¥160 = $1، بل أصبح ¥130 = $1، عندها وبنفس الحسبة السابقة تصبح قيمة الـ 65,000 دولار بين يديّ المستثمر = 8,450,000 ين، أي أنّه خسر الفارق بين المبلغين وهو 1,550,000 ين، نظرًا لأنه مدين لليابان بـ 10 مليون ين.
ولتسديد دينه لليابان بالين، يقوم المسثتمر ببيع الدولار الذي يملكه وشراء الين، ما يزيد الطلب على الين ويرفع سعره أكثر، حيث كان على المستثمرين الآخرين في السوق فعل الشيء نفسه لتجنب الخسائر الناجمة عن الارتفاع المستمرّ للين أمام الدولار. وأيضًا للحصول على الأموال اللازمة لتسديد الديون إلى اليابان، قام المستثمرون ببيع العديد من الأسهم التي يملكونها، رغم أنّها أسهم رابحة، لتوفير السيولة اللازمة لسداد الديون. هذه التحركات أطلقت موجة بيع مكثفة زادت الضغوطات في السوق، رافقها مزيدٌ من الارتفاع في سعر الين، وهو ما يفسر “الملحمة” التي حصلت في البورصات العالمية مؤخرًا، خصوصًا يوم الاثنين 5 أغسطس 2024.
بداية الأحداث كانت في 31 يوليو الماضي، عندما فاجأ بنك اليابان العالم برفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 0.25%. هذا الارتفاع كان عكس توقعات معظم المحللين، الذين كانوا يتوقعون أن البنك سينتظر قبل أن يرفع السعر مرة أخرى، خاصة وأنه في مارس الماضي كان قد رفع سعر الفائدة لأول مرة منذ 17 سنة.
لكن البنك رأى أن الوقت كان مناسبًا للرفع، خصوصًا وأن التضخم في اليابان تجاوز النسبة الذهبية للبنك، والتي هي 2% لأكثر من سنتين. وصرّح أيضًا محافظ البنك المركزي الياباني، بإمكانية رفع الفائدة بشكل أكبر في المستقبل.
هذه الإجراءات والتصريحات من البنك المركزي الياباني ساهمت في ارتفاع سعر الين الياباني أمام الدولار. وبعد يومين من قرار البنك الياباني، صدر تقرير الوظائف في الولايات المتحدة من مكتب إحصاءات العمل الأمريكي عن ارتفاع البطالة والذي يشدّد على أنّ عدد الوظائف الجديدة دون المتوقع في الولايات المتحدة، ما أثار الرعب في الأسواق.
أعطى هذا التقرير الأسواق انطباعًا بأن الاقتصاد الأمريكي قد بدأ بالفعل في التباطؤ بشكل واضح، وأن الركود قد يكون قريبًا. ولذلك بدأت الأسواق تتوقع تراجع الفيدرالي الأمريكي عن رفع الفائدة أو على الأقل إبطاء وتيرة الرفع، كي يجنّب الولايات المتحدة الركود.
هذه التوقعات تسببت في هبوط الدولار أمام كل العملات تقريبًا، بما في ذلك الين الياباني، خصوصًا بعد توقعات رفع الفائدة في اليابان. وهكذا بدأت موجة بيع الدولار وشراء الين بشكل مكثف، بقيادة صناديق التحوط والمستثمرين للخروج من لعبة Carry Trade، ما رفع من سعر الين وأدى إلى تقلبات عنيفة في الأسواق العالمية نتيجة بيع الأسهم للحصول على الأموال اللازمة لشراء الين، فتكبدت البورصة اليابانية أكبر خسارة يومية لها في تاريخها، وسُجّلت خسائر قياسية حول العالم قُدّرت بأكثر من 3 آلاف مليار دولار.