كيف ينجح التُجّار العرب في مواصلة الاستيراد من تركيا برغم المقاطعة

قرار قطع العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل قبل أربعة أشهر تقريبا كان ضربة مؤلمة لعشرات المُستوردين والتجار العرب في البلاد وعرّضهم لخسائر بمئات ملايين الشواقل. لكن بما أن "التجارة شطارة" فقد نجح هؤلاء بإيجاد الطرق البديلة لضمان تدفّق البضائع التركية التي يعشقها المُستهلك العربي في البلاد، ويتواصلون مع أنقرة لحثها على استثناء الأسواق العربية المحلية من قرار المقاطعة ضد إسرائيل.
أيقون موقع وصلة Wasla
مجد دانيال | خاص لوصلة

تدير سيدة الأعمال نجوى لهواني محلًا كبيراً لبيع الملابس في مدينة عرابة، وتسوق منُتجاتها أيضا من خلال البيع أونلاين. بالنسبة لها، كان قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شهر نيسان المنصرم بقطع العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل في أعقاب الحرب على غزة بمثابة ضربة قاضية لمشروعها التجاري الذي تعمل على بناءه وتطويره منذ سنوات طويلة. “90% من البضائع في محلي مستوردة من تركيا” تقول نجوى لوصلة، “كنت أسافر مرة بالشهر إلى اسطنبول لاستيراد ما احتاجه من بضائع. القرار التركي كان يعني إغلاق محلي، لكني لم استسلم بل قررت إيجاد حل للمشكلة”.

قرار نجوى لهواني بالبحث عن بديل للاستيراد المباشر من تركيا إلى إسرائيل لم يكن قرارها هي فقط، بل مسار عمل وتحرك للعديد من المستوردين والتجار العرب في البلاد الذين شعروا بأن الوضع السياسي والأمني في الدولة وفي المنطقة يؤثر أعمالهم بشكل مباشر ويعرض وجودها للخطر. 

نجوى نهواني
سيدة الأعمال نجوى لهواني- 90% من بضائع محلها من تركيا

 

في أبريل 2024، اتخذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قرارًا مفاجئًا بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، وذلك على خلفية استمرار الحرب على قطاع غزة وتصاعد التوترات السياسية والاقتصادية بين البلدين. هذا القرار، الذي جاء في وقت حرج، كان له تداعيات مباشرة وشاملة على المستوردين والتجار في البلاد وكذلك على المواطنين. تركيا ليست مجرد شريك تجاري عادي لإسرائيل؛ فهي تعتبر خامس أكبر شريك تجاري لإسرائيل، ما يجعل قرار وقف الاستيراد ضربة قوية لكثير من القطاعات الاقتصادية الحيوية.

وعلى الرغم من التقلبات السياسية والتوترات الأمنية التي شهدتها العلاقات التركية الإسرائيلية خلال العقد الأخير، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيرًا على العلاقات التجارية بين البلدين. على العكس من ذلك، شهد التبادل التجاري ازدهارًا ليشمل مزيدًا من القطاعات، حيث توفر تركيا مجموعة واسعة من السلع الأساسية، بدءًا من المواد الغذائية، ومرورًا بمواد البناء، وصولًا إلى الألبسة والأثاث. وفقًا لدائرة الإحصاء المركزية في اسرائيل  تعتبر تركيا ثاني أكبر موّرد للبضائع عبر البحر بعد الصين، وبنسبة 8% من مجمل الواردات البحرية إلى البلاد. 

بالنسبة للمجتمع العربي في إسرائيل تعتبر البضائع التركية “ملكة” سوق السلع والمنتجات المستوردة في قطاعات السلع الغذائية، مواد البناء، الأثاث، الملابس والأحذية وغيرها من السلع الحاضرة في كل بيت عربي في البلاد. وفي هذا التقرير  سنحاول فهم تداعيات هذا القرار على التجار والمستوردين العرب من خلال مقابلات أجريناها مع مستوردين عرب من البلاد في قطاعات مختلفة يعتمدون بشكل كامل أو جزئي على البضائع التركية.

قرار صادم!

مع صدور القرار التركي بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، خيّمت حالة من عدم اليقين والضبابية على المستوردين العرب للمنتجات التركية. نسبة اعتمادهم على المنتجات التركية كبيرٌ جدًا ويصل في بعض الأحيان إلى 100%، كما يؤكد أوس عجولي، مدير شركة “العجولي سنتر” ومستورد للأثاث والمواد البلاستيكية من تركيا. يقول عجولي: “كان القرار مفاجئًا بالنسبة لي. لم أتوقع حدوث ذلك ولم أكن مستعدًا لهذا القرار. لم يكن لدينا بضاعة كافية في المخازن، ولأول مرة يأتي قرار كهذا من طرف خارجي يريد قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل.”

في البداية، تأثر عجولي بشكل مباشر نظرًا لوجود التزامات وطلبيات مع الزبائن لم يتمكن من تلبيتها وتسليمها في الوقت المحدد. لم تكن هناك حلول واضحة في البداية، وتم تفريغ العديد من الكونتينرات المحملة وإعادتها، وكل هذه التكاليف وقعت على عاتق المستوردين. كانت هناك بضائع تنتظر أن يتم تحميلها في نفس اليوم أو اليوم التالي، لكنها لم تُشحن، مما وضع المستوردين في أزمة كبيرة أمام الموردين وأصحاب المصانع. كانت البضائع جاهزة، لكن لم يكن لديهم أدنى فكرة عن كيفية التصرف حيالها. 

 

 

أوس عجولي
رجل الأعمال أوس عجولي

 

سر نجاح البضائع التركية

هناك عدة عوامل تجعل تركيا مصدرًا رئيسيًا للبضائع في إسرائيل. أولًا، القرب الجغرافي يسهل عمليات الشحن، حيث يمكن أن تصل البضائع من تركيا إلى الموانئ الإسرائيلية في غضون ثلاثة إلى أربعة أيام فقط. ثانيًا، الأسعار التنافسية التي تقدمها تركيا تعتبر مغرية للتجار في البلاد مقارنة بالدول الأخرى. ورغم أن الصين قد تكون أرخص في بعض المنتجات، إلا أن تكاليف الشحن من الصين تزيد من التكلفة الإجمالية للبضائع. أخيرًا، جودة المنتجات التركية تلبي احتياجات السوق في البلاد بشكل جيد.

رجل الأعمال ساري حسن، أحد أكبر مستوردي ومسوقي المواد الخام والسلع الغذائية لقطاع المطاعم، المخابز، ومحال الحلويات في البلاد، يؤكد أن ثلث البضائع التي يستوردها ويسوقها عبر شركته تُستورد من تركيا، وخاصة فيما يتعلق بالمواد الغذائية مثل الفستق الحلبي والسمنة التي تُستخدم في صناعة الحلويات الشرقية. ويؤكد حسن أنه على الرغم من إمكانية استيراد الفستق الحلبي مثلاً من دول أخرى، إلا أنه من الصعب جدًا الحصول على نفس الجودة التي توفرها البضائع التركية.

في السياق ذاته، يشير عامر صالح، صاحب شبكة عمر المختار – Omall ورئيس الغرفة التجارية والصناعية للمجتمع العربي في الناصرة، إلى أن تركيا تُعد من أهم الدول التي يعتمد عليها الاقتصاد الإسرائيلي  في استيراد مواد البناء، مثل الأسمنت، الحديد، الحجر، المنتجات البلاستيكية، قطع السيارات، والألبسة، بالإضافة إلى المواد الغذائية والمنتجات الزراعية. وللتأكيد على تأثير الاستيراد من تركيا يقول صالح: “خذ مثلا سعر البندورة في إسرائيل. السعر هذه الأيام مرتفع للغاية بسبب توقف استيرادها من تركيا. البقوليات أيضًا تأتي من تركيا، مثل العدس والحمص.”

الحلول وتكاليفها الباهظة

بعد مرور ثلاثة أسابيع على القرار التركي، بدأ المستوردون في إيجاد حلول لإيصال البضائع التركية إلى البلاد، وذلك إما من خلال دولة وسيطة يتم إرسال البضائع إليها ثم يتم شحنها مجددًا إلى إسرائيل، أو من خلال الشحن على اسم شركات فلسطينية. عامر صالح يوضح أن العملية تتم بالشكل التالي “تُرسل البضائع إلى بلغاريا مثلًا، حيث يتم تفريغ الحاويات (الكونتينر) في الميناء هناك، ثم تُصدر ورقة شحن جديدة لنقل البضائع إلى إسرائيل. هذا أحد الحلول، لكن هناك حلول أخرى، مثل إرسال البضائع لشركات في الضفة الغربية، وعندما تصل إلى البلاد تُحول باسم التاجر الإسرائيلي. هذا يعني أن تكلفة الشحن زادت بشكل ملحوظ، والشحن بهذه الطريقة يكلف الآن الضعف وأحيانًا ثلاثة أضعاف ما كان عليه في السابق”.

أوس عجولي يوضح أن عملية الشحن على الاسم الفلسطيني، رغم أنها قد قصرت الوقت وجعلت الشحن مباشرًا إلى البلاد، لم تخفف من التكاليف، بل على العكس تمامًا. “قام الأتراك بكتابة “Occupied Palestine” (فلسطين المحتلة) على أوراق ومعاملات الشحن، مما أدى إلى عدم الاعتراف باتفاقية “EUR.1″ الموقعة بين تركيا واسرائيل التي تمنح تخفيضات جمركية أو إعفاءات من الرسوم الجمركية. عندما وصل الكونتينر إلى الموانئ الإسرائيلية، اضطر المستوردون لدفع جمارك تتراوح بين 8-15%. كما أن هذه الطريقة لم تساهم في خفض تكلفة الشحن، نظرًا لوجود طلب كبير وعدد قليل جدًا من شركات الشحن التي تعمل على هذا الخط. حيث تصل تكلفة الشحن للكونتينر اليوم إلى 4000 دولار، بينما كانت 1200 دولار في السابق.”

المستوردون العرب حاولوا البحث عن بدائل، لكن الجميع يتفق على أنه لا غنى عن تركيا من حيث الجودة والأسعار. حتى تكاليف الشحن من دول أخرى ستكون أغلى بكثير. على سبيل المثال، فحص العجولي إمكانية الاستيراد من فيتنام، ووجد أن تكلفة الشحن تصل إلى أكثر من 5,000 دولار بينما سعر البضاعة لا يتعدى 10,000 دولار. ويضيف “أما إذا لجأنا إلى المنتجات الأوروبية، فأسعارها مرتفعة مقارنة بالمنتجات التركية”.

انعكاس التكاليف على الأسعار

ويبدو الأمر بديهيًا  أن هذا الارتفاع في تكاليف الشحن من شأنه أن يرفع من أسعار المنتجات، لكن في ظل الظروف الحالية والحرب المستمرة، هناك هبوط في نسبة المبيعات نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الناس. وهذا ما يؤكد عليه أوس عجولي، حيث يقول: “أن حالة الخوف التي تسيطر على الناس سواء في مناطق السلطة الفلسطينية أو في الداخل تخلق حالة من عدم الاستقرار النفسي تمنع الناس من الإنفاق بشكل طبيعي، ويصبح التركيز فقط على المواد الأساسية. لذلك، نجد صعوبة كبيرة في رفع الأسعار رغم زيادة التكاليف. يتحمل التجار معظم هذه الخسائر، وإذا أرادوا رفع الأسعار، فإنهم يقومون بذلك بشكل بسيط جدًا”.

ساري حسن
رجل الأعمال ساري حسن – لا بديل لجودة البضائع التركية

 

من الواضح أن الجميع تضرر بطريقة أو بأخرى من هذا القرار، لكن بدرجات متفاوتة وذلك مرتبط بطبيعة المنتجات التي يتم استيرادها، وأيضًا بحجم المصلحة وطبيعة العلاقات التي تربط التجار بالموردين وشركات الشحن. على سبيل المثال، استيراد الملابس يمكن أن يتم بشكل مضغوط في كراتين لا تأخذ مساحة كبيرة من الكونتينر، ويمكن شحنها عن طريق الجو أيضًا. في المقابل، عندما يدور الحديث عن الأثاث، الأدوات الكهربائية وما شابه، فهي تحتل حيزًا أكبر في وسائل الشحن ولا يمكن نقلها عبر الطائرات وإنما فقط عن طريق السفن، مما يجعل تكلفتها أعلى والمدة الزمنية لوصولها أطول.

وكذلك الحال فيما يتعلق ببعض المواد الغذائية والمنتجات الزراعية التي لا تحتمل الانتظار لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع حتى تصل إلى البلاد، مما يجعل عملية استيرادها من تركيا عبر دولة ثالثة أمرًا شبه مستحيل. هناك فئة أخرى متضررة وهم التجار الصغار الذين كانوا يعتمدون على السفر شهريًا إلى تركيا وإحضار البضائع معهم في الأمتعة على متن الطائرة، إذ بات هذا الأمر صعبًا عليهم بعد توقف الطيران بين إسرائيل وتركيا.

بالنسبة لنجوى لهواني لم يكن هناك مكان للتخبط: “” لم يكن أمامي خيار اخر إما أن استسلم واغلق محلي واما ان اتحدى كل الصعاب وابرزها مشقة السفر الذي استغرقني 17 ساعة للوصول إلى تركيا عن طريق اليونان. ولم تردعني التخوفات او الاوضاع الامنية. وفي نهاية المطاف نجحت في إيصال البضائع إلى البلاد بالوقت المطلوب دون تأخير ومع زيادة بسيطة في سعر الشحن.” التغيير الوحيد الذي طرأ كما تقول نجوى، أنها اعتادت في السابق ان تسافر الى تركيا مرة كل شهر، وتمضي فترة قصيرة لكن منذ عشرة أشهر أي منذ بداية الحرب سافرت فقط ثلاث مرات، بسبب مشقة السفر بعد توقف الطيران المباشر الى تركيا. وكانت تضطر ان تمضي فترة تتراوح ما بين 10-14 يومًا بعيدًا عن عائلتها وأولادها. 

مكانة خاصة للمستوردين العرب في إسرائيل؟

على مدار السنين، نجح التجار العرب في البلاد في بناء علاقات طيبة مع الموردين الأتراك، وكانت هناك عدة محاولات لتخطي هذه الأزمة وإيجاد حل يستثني المواطنين العرب في البلاد من المقاطعة، إلا أنها لم تنجح. عامر صالح يوضح: “نحن نحافظ على علاقات طيبة مع الأتراك، وطلبنا منهم أن يتم تميزنا مثل أهل الضفة الغربية. طلبوا منا إرسال أوراق بأسماء المستوردين العرب ليتم تمرير بضائعنا من الموانئ التركية، لكن المشكلة تكمن في عدم وجود ملحق تجاري تركي يمكن التواصل معه بشكل مباشر. توجهنا للجمارك التركية عن طريق الغرفة التجارية والصناعية في إسطنبول، فطلبوا منا إرسال أسماء المستوردين الفلسطينيين في إسرائيل الذين يستوردون بكميات كبيرة لكي يتم التعامل معهم بشكل خاص، لكن الأمر لم يتم بسبب عدم وجود ملحق تجاري تركي يمكن التنسيق معه.”

عامر صالح
رجل الأعمال عامر صالح: مساعٍ لمنح المستوردين العرب في إسرائيل مكانة خاصة

في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الكبيرة، تزايدت الدعوات إلى الحكومة الإسرائيلية للتدخل ودعم التجار المتضررين. عامر صالح تحدث عن جهود الغرف التجارية التي تمثل المجتمع العربي في إسرائيل، والتي قامت بإرسال رسالة إلى وزير المالية، تطالب فيها بإعادة النظر في السياسات التي قد تزيد من تفاقم الأزمة.

أحد المخاوف الرئيسية التي أثيرت هو تهديد وزير المالية بيتسالئيل ستريتش بفرض ضريبة إضافية على المنتجات القادمة من تركيا. هذا الإجراء قد يزيد من الأعباء على المستوردين والمواطنين على حد سواء، حيث سيتم نقل تكاليف الضريبة إلى المستهلك النهائي. عامر صالح وصف هذا القرار بأنه “عقاب للتجار وليس لتركيا”، حيث أن تركيا لن تتأثر بشكل كبير بمثل هذه الضرائب، في حين أن الضرر الأكبر سيلحق بالتجار الإسرائيليين والمواطنين.

من جانب آخر، لم تقدم الحكومة حتى الآن دعمًا ملموسًا للتجار المتضررين من القرار التركي. ساري حسن أكد أن الحكومة لم تتدخل بشكل جدي لمساعدة المستوردين في مواجهة هذه الأزمة. بل على العكس، بعض الإجراءات الحكومية زادت من صعوبة الوضع، مثل القيود الإضافية التي تم فرضها على الشحن والتجارة مع تركيا.

مقالات مختارة

Skip to content