في ظل شلل الحركة السياحية، ونقص الأيدي العاملة وغلاء الأسعار وابتعاد الزبائن اليهود، المصالح العربية في حيفا تشهد حالة ركود غير مسبوقة دفعت بحركة “شباب حيفا” إلى إطلاق مبادرة شعبية لدعم مصالح “أهل البلد”.
يُعتبر فادي نجار، صاحب مطعم “دوزان” في جادة بن جوريون (الألمانية) من أوائل المبادرين وأصحاب المطاعم في هذا الشارع، والذي يُعتبر مركزا رئيسيا للمطاعم العربية في المدينة. بالنسبة لفادي، فإن الأشهر العشرة الأخيرة كانت الأصعب بالنسبة له ولكل المبادرين العرب في مجال المطاعم والضيافة منذ عقود طويلة.
“جميع المطاعم العربية في الحي الألماني في حيفا أكلت ضربة قوية منذ بداية الحرب، ذلك لأنّ معظمها يعتمد على أيدي عاملة من الضفة الغربية مثل الطباخين وعُمال المطبخ”، يقول فادي. “استبدال هؤلاء العمال بعُمال من البلاد يعني دفع أجور أعلى بكثير. وأضيفي على ذلك غلاء الأسعار المتواصل. في السّابق كان سعر كيلو البندورة أربعة شيكل أمّا اليوم فهو ستة عشر شيكل، لا يمكنك أن تبيعي صحن التبولة بـ 200 شيكل للزبون، مصروفاتنا أصبحت أعلى من مدخولاتنا”، يضيف فادي، ويؤكد بأن الوضع الأمني المتوتّر والتهديدات المستمرة من لبنان والعنصرية الّتي باتت جليّة بعد الحرب كلّها أمور أثّرت على تواجد الزبائن في الحي الألماني الّذي يعتمد بشكل كبير على السّياح.
وإذا كان حي الألمانية مركزا تجاريا رئيسيا للمطاعم العربية في حيفا، فإن حي وادي النساس كان ولا يزال المركز التجاري التاريخي للوجود العربي في حيفا، حيث تعمل في الحي عشرات المصالح التجارية العربية الصغيرة في مختلف القطاعات. إلا أن آثار الحرب والغلاء وانقطاع السياحة ضربت المصالح العربية في الصميم وأصبحت تهدد وجودها، الهش أصلاً.
“منذ اليوم الأول لي في هذا المكان ونحن ندفع ثمنًا اقتصاديّا”، تقول ميريهان خوري صاحبة جاليري “دارنا” في وادي النسناس لوصلة، وتكمل: “جاليري دارنا كان حلم الطفولة وهو دمج بين التراث الفلسطيني والفن، افتتحته قبل ثلاث سنوات، رغم تخوّف أصحاب المحلات التجارية العربية من أن يكون عائقًا أمام قدوم اليهود إلى الحي، ممّا قد يُضعف المبيعات. ليس سهلًا أن تختاري كصاحبة محل تجاري مكان هُمّش على مدار السنوات وفي كافة الأصعدة”.
“بعد هبّة الكرامة عام 2021 شهد الحي تراجعًا اقتصاديّا واضحًا بسبب التحريض ومقاطعة المحلات التجارية العربية في حيفا. شخصيًّا واجهت مضايقات كثيرة من قبل بعض زوّار الحي اليهود. هذه التحديات يومية وليست حصيلة عشرة الأشهر الأخيرة، لكن منذ بداية الحرب أصبحت هذه المضايقات أكثر وضوحًا واستفزازًا، برأيي أنها كانت موجودة دائمًا لكنها بدأت الآن تطفو على السطح”.
“تُنظّم البلدية جولات برفقة مرشدين سياحيين، وكباقي المحلات التجارية في الحي يدخل السياح إلى محلّي التجاري، حينما يرون المعروضات واللوحات (من الفن الفلسطيني م.ع) في المكان تبدأ الأسئلة والمضايقات، وهذا ما حصل مؤخرّا مع أحد مرشدي الجولات السياحية حينما قال لي أمام السياح: انتو عايشين من التأمين الوطني”، تُضيف.
أما عن الأضرار الاقتصادية الّتي بدأت منذ اندلاع الحرب، فتقول: “يعتمد حي وادي النسناس وحيفا على فترة “عيد الأعياد” الّتي تنظمها البلدية نهاية كل عام، لكنّه ألغي هذا العام بسبب عدم وجود ملجأ في وادي النسناس وهذا أمر آخر يدل على تهميش الحي العربي والتمييز بين السكان العرب واليهود”.
وتُكمل: “أعرف مصالح تجارية جديدة في وادي النسناس أُغلقت في بداية الحرب. بحسب ما سمعته من أصحاب المحلات إنّ الضرر الاقتصادي لا يقل عن 80% خلال الفترة الأولى للحرب، حيث كانت المحلات تُغلق الساعة 12 ظهرًا، فبدأ أصحابها يبحثون عن مصدر دخل آخر. شخصيًا قمت بتدريس الفنون لأغطي الخسائر المادية”.
“لا أحد يدري كيف صمدت هذه المحلات خلال هذه الفترة، أحدهم سألني متعجبًا كيف لا زلنا نتواجد في الواد؟ نحن مصرّون على البقاء رغم التحديات. وإذا لم يكن هناك وعي كافي حول ما يجري وطالت هذه الحرب، ستكون الأضرار مضاعفة وذات أبعاد سياسية قد تؤدي إلى إفراغ الحي من أهله. فكم من الممكن أن يتحمّل صاحب المصلحة بالدفع من جيبه؟”.
صورة الوضع الاقتصادي للمصالح التجارية في حيفا هي تعكس الوضع الاقتصادي العام للمصالح العربية والمصالح التجارية عموما في جميع أنحاء البلاد. لكن المُشكلة تكمن في عدم وجود أي معطيات رسمية تتعلق بتضرر المصالح العربية بالتحديد.
“حتى الآن لم تستطع أي مؤسسة إعطاء جواب واضح حول عدد المصالح العربية الّتي تضرّرت، حاولنا عبر سلطة التطوير الاقتصادي للمجتمع العربي القيام باستطلاع حول ذلك لكنها رفضت بذريعة عدم وجود ميزانية كافية، لكن باعتقادي أنّ الرفض جاء من أجندة معيّنة”. يقول د. سامي ميعاري، المحاضر في الاقتصاد في جامعة تل أبيب والمحاضر الزائر في جامعة ييل والمدير السابق للمنتدى الاقتصادي العربي. ويضيف ميعاري المتواجد حاليا في الولايات المتحدة: “في النصف الأول لهذا العام بلغ عدد المصالح التجارية الّتي أغلقت في البِلاد حوالي 60 ألف مصلحة، ومن بينها ما لا يقل عن 15 ألف مصلحة عربية. وفي الوضع الطبيعي هناك حوالي 40 ألف مصلحة تُغلَق في عام كامل. الاقتصاد في إسرائيل مبني على الإثنية، الأغلبية تسيطر فيه على الاقتصاد وهناك اقتصاد هامشي وظيفته تزويد الاقتصاد المركزي بالخدمات وهو الاقتصاد العربي. عادةً عندما يكون تراجع اقتصادي فإنّ أول من يتضرر الاقتصاد الهامشي.”
في هذه الأوضاع بادرت “حركة شباب حيفا” إلى حملة شعبية تحت عنوان “مصالحنا- معًا ندعم أهل البلد” بهدف تشجيع المجتمع العربي في حيفا على التسوق والشراء من المحلات التجارية العربية.
وحول هذه المبادرة يقول إلياس سخنيني عضو في حركة شباب حيفا لوصلة: “إنّ أحد أهم أهداف حركة شباب حيفا أن تكون حيفا مكانًا يتلاءم مع واقع الشباب والشابات العرب في المدينة من خلال نشاطات ومبادرات نقوم بها. أمّا بالنسبة لمبادرة “مصالحنا” لدعم الاقتصاد المحلي في حيفا، فنحنُ نرى أنّ أهميتها تكمن في كونها مناسبة لكل زمان على وجه الخصوص خلال فترة الحرب، الّتي تسبّبت في تضرر الكثير من المصالح المحلية”.
ويضيف: “انطلقت المبادرة بناءً على الحاجة الملحّة التي يشعر بها الشباب العرب لدعم للمصالح المحلية، وإيمانًا منّا بأنّ دعم المصالح المحلية هو جزء لا يتجزأ من النضال الاقتصادي والوطني، والذي يثمر عنه نتائج ملموسة على المدى الطويل. تستقطب حيفا الكثير من الطلاب والعاملين من خارج المدينة الّذين لا يعلمون بأماكن وجود المحلات العربية في المدينة، هم يريدون دعم الاقتصاد الوطني ولا يعرفون كيف. مبادرتنا تهدف إلى إتاحة الوصول إلى قائمة بأسماء محلات تجارية عربية عديدة تلبي جميع الاحتياجات الاستهلاكية للمواطن العربي، عبر باركود خاص وبوسترات سنقوم بوضعها في المصالح التجارية وتعليقها على جدران المدينة”.
“كذلك نهدف في الفترة القريبة إلى زيارة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية في حيفا لنوزّع مناشير على الطلاب العرب تتعلّق بالمبادرة وأهمية دعم الاقتصاد العربي الحيفاوي. كما ونُطلق الحملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الفئة المستهدفة”.
أمّا عن التحديات الّتي قد تواجههم خلال المبادرة، فيقول: “اليوم توجد بدائل سريعة وسهلة قد يختارها الفرد، كذلك من الممكن أن تكون أهداف وفوائد الحملة غير واضحة في البداية، لكنّنا نؤمن بالتراكمية وتأثيرها من خلال رفع وعي الأفراد حول جدوى دعم الاقتصاد المحلي”.
ينهي سخنيني برسالة موجهة إلى المجتمع: ” كحركة شبابية يهمنا أن يكون هناك تكاتف مجتمعي، على وجه الخصوص في هذه الأوقات الصعبة، وأن نأخذ مسؤولية فردية للقيام بمجهود شخصي لدعم الاقتصاد الوطني. هذا الأمر سيعزز من تماسك النسيج المجتمعي على المدى البعيد. نحنُ نطمح أيضًا أن تنطلق هذه المبادرة في جميع قُرانا ومدننا”.
من جهتها ترى ميريهان خوري بأن هذه المبادرة الشبابية مهمة جدا وحيوية لدعم الاقتصاد العربي في حيفا: “فكرة دعم الاقتصاد المحلي أعمق مما تبدو عليه، نحن كشعب يمكننا الاعتماد على أنفسنا، كنا في السابق مجتمعًا منتجًا ومستقلًا ولكن أصبحنا مستهلكين فقط، نصرف أموالنا في المجمعات التجارية. هذه المبادرة مهمة وأدعو الناس إلى دعم المصالح التجارية الموجودة هنا.”