في ظل الاضطرابات السياسية والتحديات الأمنية المستمرة في إسرائيل، يفكر العديد من عرب الداخل في الهجرة، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى النخبة الاجتماعية والاقتصادية. هذه الظاهرة، التي تحركها تدهور الأمن، والصعوبات الاقتصادية، والاضطهاد السياسي المتزايد، تعيد تشكيل مستقبل المجتمع العربي في البلاد. ينظر رواد الأعمال، والعاملون في قطاع التكنولوجيا العالية، وغيرهم من الأعضاء الميسورين في المجتمع العربي بشكل متزايد إلى الفرص في الخارج، متسائلين عما إذا كان يمكن لوطنهم أن يوفر لهم الأمان والمساواة والفرص التي يسعون إليها.
تزايد القلق على المستقبل والبحث عن بدائل
تتعدد الأسباب وراء الاهتمام المتزايد بالهجرة. يكشف استطلاع أجرته شركة “سي.آي” لأبحاث السوق بالتعاون مع iPanel التابعة لموقع “ذا ماركر” أن 43% من العرب يفكرون في مغادرة البلاد، بينما 17% آخرون غير متأكدين. بالمقارنة، يظهر الاستطلاع أن 37% من اليهود يفكرون أيضًا في مغادرة البلاد، بينما 19% غير متأكدين. هذه المشاعر شائعة بشكل خاص بين العرب الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و49 عامًا، حيث يفكر 52% في الهجرة، بينما تبلغ النسبة بين اليهود من نفس الفئة العمرية 43%.
تشمل العوامل الرئيسية التي تحرك هذا الاتجاه بين العرب التحديات الاقتصادية (42%)، وهي نسبة مماثلة تقريبًا لليهود الذين يفكرون في مغادرة البلاد لنفس السبب (43%). بالإضافة إلى ذلك، يفكر 30% من العرب في المغادرة بسبب الظروف الأمنية، بينما يفكر فقط 24% من اليهود في المغادرة لهذه الأسباب، ما يشير إلى أن العرب يتأثرون بشكل أكبر بفقدان الأمن الشخصي نتيجة للعنف الممارس ضدهم، خصوصًا في أوقات الأزمات، والجريمة في البلدات العربية.
ففي عام 2023 وحده، قُتل 241 مواطناً عربياً في إسرائيل، بينما قُتل 109 آخرون في النصف الأول من عام 2024. وقد فشلت الشرطة في توفير الحماية تحت قيادة وزير “الأمن القومي” إيتمار بن غفير، ما زاد من حدة المخاوف داخل المجتمعات العربية، خصوصًا مع وجود وزير يميني متطرّف على رأس الأجهزة الأمنية التي يتوجب عليها حمايتهم.
وعند سؤال أصحاب الدخل فوق المتوسط كيف يرون مستقبل أبنائهم، فإنّ 68% منهم يعتقدون بأنّه سيكون أسوأ من الوقت الراهن. وهذا يدلّ على تصاعد القلق وعدم اليقين بين النخبة الاقتصادية والاجتماعية من العرب، النخبة الأكثر قدرةً على مغادرة البلاد من بين غيرها من الشرائح الاجتماعية.
دور العوامل الاجتماعية والاقتصادية
رغم التقدم الملحوظ في أوضاع المجتمع العربي في السنوات الأخيرة – مثل زيادة عدد الطلاب العرب بنسبة 122% وارتفاع معدل تشغيل النساء العربيات من سن 25 إلى 64 من 29% إلى 45% – لا يزال العديد من العرب يواجهون حواجز كبيرة في إسرائيل. وعلى الرغم من أن اليهود الإسرائيليين يواجهون تحدياتهم الخاصة، فإن التحديات التي يواجهها العرب غالبًا ما تكون أكثر حدة. فمثلاً، تُظهر الإحصائيات أن نسبة الفقر بين العرب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا تصل إلى 40%، مقارنة بـ 14.8% فقط بين اليهود من نفس الفئة العمرية.
في سوق العمل، يواجه العرب تحديات خاصة، حيث يُذكر التمييز في القطاعات مثل التكنولوجيا الفائقة “الهايتك”، إذ تفضّل العديد من الشركات العمل مع يهود لا عرب. وحتى أولئك الذين يحققون النجاح الاقتصادي يجدون أن هذا النجاح يأتي غالبًا بتكلفة. فعلى سبيل المثال، يواجه رواد الأعمال العرب البارزون في البلاد، بالإضافة إلى التمييز المتجذّر ضدهم، تهديدات من الجريمة المنظمة، وابتزازات من أجل دفع “الخاوة” أو أموال “الحماية”، ما يدفعهم إلى التفكير في الانتقال إلى دول يمكنهم فيها العمل والعيش وتربية أطفالهم دون مثل هذه المخاوف والتهديدات.
يشرح المحامي خالد عون، الذي يعمل في مجال العقارات، أن العديد من عملائه، ومعظمهم من رجال الأعمال الناجحين، يسعون للحصول على نصيحة بشأن الهجرة بناءً على برامج “التأشيرات الذهبية” التي تقدمها دول أخرى. يقول عون: “أي شخص يريد النجاح هنا سيظل يخشى دائمًا على سلامته وسلامة أسرته”. هذا الشعور يعكس قلقًا أوسع بين النخبة العربية، التي تشعر بأنها تُدفع خارج البلاد بسبب التهديدات المباشرة ونقص الفرص.
مقالا ذات صلة: العرب غارقون في بحر الديون مع استغلال مافيات السوق السوداء وغياب الدولة
التوازن بين الرغبة في البقاء والضغوط للمغادرة
رغم هذه الضغوط، يبقى العديد من العرب مرتبطين بشكل عميق بوطنهم. تُذكَر الروابط التاريخية والثقافية، فضلاً عن الرغبة في البقاء بالقرب من العائلة، من قبل 44% من العرب المستطلعة آراءهم في الاستطلاع كأسباب للبقاء في البلاد وعدم الهجرة، مقارنة بـ 37% من اليهود الذين يرغبون في البقاء لنفس الأسباب. ومع ذلك، تتم زعزعة هذه الروابط بسبب تصاعد موجات العنف والعنصرية والاضطهاد السياسي. منذ أكتوبر 2023، واجهت جميع فئات المجتمع العربي قيودًا متزايدة على حريتهم في التعبير، حيث فقد البعض وظائفهم أو تعرضوا للتحقيق بسبب منشورات “عادية” على وسائل التواصل الاجتماعي تُعتبر اخلالًا بالأمن العام أو تحريضًا على العنف. وأُخضع العديد منهم لـ”محاكم تفتيش” سواءً من الشرطة أو أماكن عملهم دون وجود أيّ مبرّرات قانونية، وإلى اعتقالات تعسفيّة تمّ اهانتهم خلالها والتشهير بهم.
المناخ السائد من الخوف وعدم اليقين مختلف في الوقت الراهن عن أيّ مرحلة سابقة. يقول المحامي خالد عون: “هذه الحرب هي المرة الأولى التي يبقى فيها السكان العرب صامتين، ليس لأنهم لا يملكون شيئًا يقولونه، ولكن لأنهم خائفون”. هذا الصمت، الذي ينبع من الخوف من الانتقام السياسي، يعكس شعورًا أوسع بالإقصاء بين العرب في البلاد، يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى خشيتهم من إحلال نكبة جديدة بهم، أو تهجيرٍ وتدميرٍ كالحاصل في غزّة.
لكنّ هجرة النخبة المتعلّمة والأثرياء إلى الخارج ستفاقم من الأوضاع الصعبة للمجتمع العربي، كتفشيّ الجريمة وزيادة السياسات التمييزية، وهذا في النهاية لن يضرّ المجتمع العربي وحده، بل سيتمدّ التأثير ليصل إلى جيرانهم اليهود كذلك.
بتصرف عن دا ماركر