كيف سيواجه العالم أزمة الأمن المائي

أيقون موقع وصلة Wasla
بروجيكت سنديكيت
يواجه العالم وضعا غير مستدام عندما يتعلق الأمر بالمياه. لكن حل المشكلة ليس في المتناول فحسب؛ بل إنه يمثل أيضا الثمار الدانية في التصدي لتغير المناخ وتوليد فرص العمل والنمو.  

 

بقلم: ماريانا مازوكاتو؛ نجوزي أوكونجو إيويالا؛ يوهان روكستروم؛ ثارمان شانموجاراتنام

 

الواقع أن أزمة المياه واضحة للعيان. فعاما بعد عام، وفي منطقة بعد أخرى، تأتي في أعقاب موجات الحر والجفاف غير المسبوقة عواصف وفيضانات مدمرة. ومع بلوغنا أقصى حدود استخراج المياه من الأرض، تنضب أنظمة الغذاء وتغرق المدن. ويموت أكثر من ألف طفل دون سن الخامسة كل يوم بسبب أمراض ناجمة عن مياه الشرب غير الآمنة والافتقار إلى مرافق الصرف الصحي، وتقضي مئات الملايين من النساء ساعات كل يوم في جلب المياه ونقلها.

جفاف- صورة توضيحية
جفاف- صورة توضيحية

 

إنها أزمة من صنع الإنسان، ومن الممكن، بل يجب، حلها من خلال تدخلات بشرية. ولكن لتحقيق المساواة والاستدامة في كل مكان، نحتاج إلى نهج جديدة لإدارة المياه وموجة من الاستثمار الأعلى بدرجة كبيرة، والإبداع المتزايد، وبناء القدرات. الواقع أن تكاليف هذه التحركات لا تُـذكَر مقارنة بالأضرار الاقتصادية والإنسانية التي قد تلحق بنا نتيجة للتقاعس المستمر.

تتلخص الخطوة الأولى في الاعتراف بأن المشاكل التي نواجهها ليست مجرد مآسي محلية. ذلك أن دورة المياه غير المستقرة تؤثر بشكل متزايد على كل ركن من أركان العالم. تميل الأساليب الحالية إلى التعامل مع المياه التي نستطيع رؤيتها ــ المياه الزرقاءفي أنهارنا وبحيراتنا وخزاناتنا المائية ــ وتفترض أن إمدادات المياه مستقرة عاما بعد الآخر. لكن هذا لم يعد صحيحا، حيث تؤثر التغيرات الطارئة على استخدام الأراضي، وتغير المناخ، ودورة المياه الـمُـخـتَـلّـة على أنماط هطول الأمطار.

في كثير من الأحيان، يتجاهل الـفِـكر الحالي موردا بالغ الأهمية للمياه العذبة، وهو على وجه التحديد المياه الخضراءفي تربتنا ونباتاتنا وغاباتنا، والتي تَـنـتَـح ويُـعاد تدويرها عبر الغلاف الجوي. تولد المياه الخضراء نحو نصف الأمطار التي نتلقاها على الأرض، وهي المصدر الحقيقي لكل مياهنا العذبة. على ذات المنوال، تترابط البلدان ليس فقط من خلال تدفقات المياه الزرقاء (مثل الأنهار)، بل أيضا، وبدرجة أكبر من الأهمية، من خلال تدفقات الرطوبة من الغلاف الجوي. وباعتبارها مكونا أساسيا من مكونات دورة المياه العالمية، تحتاج المياه الخضراء بشكل عاجل إلى إدارة أفضل.

الأمر الأشد خطورة هو أن ارتباكات دورة المياه متشابكة بدرجة عميقة مع الانحباس الحراري الكوكبي وانحدار التنوع البيولوجي في العالم، حيث يعزز كل منهما الآخر. يشكل الإمداد المستقر بالمياه الخضراء في التربة أمرا بالغ الأهمية لدعم الأنظمة الطبيعية القائمة على الأرض والتي تمتص 25% إلى 30% من ثاني أكسيد الكربون المنبعث من احتراق الوقود الأحفوري.

تمثل هذه العملية واحدة من أهم إعانات الدعم الطبيعية للاقتصاد العالمي. بيد أن خسارة الأراضي الرطبة ورطوبة التربة، جنبا إلى جنب مع إزالة الغابات، تتسبب في استنزاف أكبر مخازن الكربون على الكوكب، مع ما يصاحب ذلك من عواقب مدمرة تؤثر على وتيرة الانحباس الحراري الكوكبي. ثم تتسبب درجات الحرارة المتزايدة الارتفاع في إحداث موجات حر شديدة وزيادة الطلب التبخري في الغلاف الجوي، فيُـفضي ذلك بدوره إلى جفاف المشهد الطبيعي بشدة وزيادة خطر اندلاع حرائق الغابات.

وعلى هذا فإن أزمة المياه تؤثر على كل هدف من أهداف التنمية المستدامة المحددة من قِـبَـل الأمم المتحدة تقريبا وتهدد الناس في كل مكان. وتُـعَـد أزمات مثل عدم كفاية الغذاء لسكان العالم المتزايدين، وانتشار الأمراض على نحو متسارع، وزيادة الهجرة القسرية والصراعات عبر الحدود قِـلة من النتائج المتوقعة.

المهمة يد 2 أ (H2O)

مثل هذه المشكلة الجماعية الجهازية الواسعة النطاق لا يُـمكن حلها إلا من خلال العمل المتضافر في كل بلد وعن طريق التعاون عبر الحدود والثقافات. إن الفهم المشترك للصالح العام أمر بالغ الأهمية. وإلا فإن ما قد يبدو مفيدا لأحد البلدان اليوم قد يخلق بسهولة مشكلات لذات البلد غدا، وكذا لبلدان أخرى في مختلف أنحاء العالم.

هذا الوضع لا يتطلب قدرا أعظم من الطموح فحسب، بل يستلزم أيضا نهجا مدفوعا بالمهمة في التعامل مع المياه ــ نهج يتقاطع مع قطاعات متعددة ويركز على جميع المستويات، من إدارة أحواض الأنهار المحلية إلى تشكيل التعاون المتعدد الأطراف. نحن قادرون على ــ بل يتعين علينا ــ إحراز النجاح في تنفيذ مهام المياه الأعظم أهمية في العالم:

  • إطلاق ثورة خضراء جديدة في أنظمة الغذاء للحد من استخدام المياه مع زيادة المحاصيل الزراعية لتلبية الاحتياجات الغذائية للسكان المتزايدين.
  • صيانة واستعادة الموائل الطبيعية التي تشكل أهمية بالغة لحماية موارد المياه الخضراء.
  • إنشاء اقتصاد مائي “دائري” في كل قطاع.
  • وضمان حصول كل مجتمع مُـعَـرَّض للخطر على خدمات المياه والصرف الصحي النظيفة والآمنة بحلول عام 2030.

في حين ينبغي لهذه المهام أن تدفع التحولات السياسية، وتنسق بين القطاعين العام والخاص، وتحفز الإبداع، فإنها تتطلب أيضا طرقا جديدة للإدارة. لابد أن تصبح عملية صنع السياسات أكثر تعاونية وقابلية للمُـساءلة، وشمولا لكل الأصوات، وخاصة أصوات الشباب، والنساء، والمجتمعات المهمشة، والشعوب الأصلية التي تقف على الخطوط الأمامية في معركة الحفاظ على المياه.

يكمن التحول السياسي الأكثر جوهرية في تقييم المياه على النحو الصحيح بما يعكس ندرتها فضلا عن دورها الحاسم في دعم الأنظمة البيئية الطبيعية التي يعتمد عليها كل مجتمع. يتعين علينا أن نوقف تسعير المياه بأقل من قيمتها الحقيقية في مختلف أنحاء الاقتصاد، وإعانات الدعم الزراعية الضارة التي تدفع الاستخدام غير المستدام وتدهور الأراضي. وسوف تساعدنا إعادة توجيه هذه الأموال نحو تشجيع حلول توفير المياه وتقديم الدعم الموجه للفقراء والمستضعفين في قطع شوط طويل نحو تحقيق غاياتنا.

لإصلاح نقص الاستثمار المزمن في المياه، يتعين علينا إعادة تحديد أولويات بنية المياه الأساسية في الموارد المالية العامة، حيث تلقى الإهمال على نحو غريب في معظم البلدان. ​​بوسع صناع السياسات أن يستفيدوا من أفضل الممارسات في الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتوفير حوافز عادلة لالتزامات طويلة الأجل، في حين يخدمون مصالح جماهير الناس، وخاصة المجتمعات المحرومة.

نظرا للطبيعة الجمعية التي يتسم بها تحدي المياه، يتعين علينا ضمان تدفقات أكبر وأكثر جدارة بالثقة من التمويل لمساعدة البلدان المنخفضة الدخل وذات الدخل المتوسط الأدنى على الاستثمار في المرونة المائية. ومن الأهمية بمكان أن تعمل بنوك التنمية المتعددة الأطراف، ومؤسسات تمويل التنمية، وبنوك التنمية العامة عن كثب مع الحكومات لدعم مهام المياه الوطنية التي تعكس الاحتياجات المحلية والظروف البيئية. كما تقدم اتفاقيات التجارة الدولية روافع محتملة لتعزيز الاستخدام الفعّال للمياه، لأنها قادرة على المساعدة في ضمان عدم تسببالمياه الافتراضيةالمضمنة في السلع المتداولة في تفاقم الـنُـدرة في المناطق التي تعاني من نقص المياه.

وكما نفعل في التعامل مع الانبعاثات الغازية، يتعين علينا تجميع بيانات عالية النزاهة عن البصمات المائية التي تخلفها الشركات وإنشاء أطر للإفصاح عن استخدامات المياه. يتعين علينا أن نعمل أيضا على تطوير أنظمة لتقييم المياه كجزء من رأس المال الطبيعي. وتحديد سعر لهذا المورد الأكثر أهمية من شأنه أن يحقق أرباحا كبيرة للدول بمرور الوقت.

باختصار، يتعين علينا تشكيل الأسواق في مختلف اقتصاداتنا، من الزراعة والتعدين إلى الطاقة وأشباه الموصلات، حتى تصبح أكثر كفاءة، وإنصافا، واستدامة في استخدام المياه.

يوضح التقرير الأولي لعام 2023 الصادر عن اللجنة العالمية لاقتصاديات المياه الحجج لصالح السعي إلى إحداث تغيير جوهري في الطريقة التي يدير بها العالم المياه. وسوف يوضح تقريرنا النهائي المرتقب في أكتوبر/تشرين الأول كيف يمكننا أن نفعل ذلك من خلال العمل الجماعي التحويلي.

نحن لا نزال في عام 2024. وإذا لم نعالج هذه المشكلات بشكل مباشر، فسوف تزداد حرائق الغابات والفيضانات وغير ذلك من الأحداث القاسية المرتبطة بالمياه والمناخ شدة وفتكا في السنوات القادمة. قد يبدو تعزيز أجندة الأمن المائي أشد صعوبة في خضم التوترات الجيوسياسية المتنامية، لكنه يقدم فرصة لإثبات حقيقة مفادها أن التعاون من الممكن أن يعود بالفائدة على كل البلدان وأن يعمل على تمكين مستقبل عادل وقابل للعيش للجميع. نحن لا نملك ترف التقاعس عن التصدي لهذا التحدي.

هذا التعليق منشور في مجلتنا المرتقبة، بروجيكت سنديكيت ربع السنوية: “محنة المناخ” (PS Quarterly: The Climate Crucible.) انقر هنا لاستكشاف المجلة، التي تضم تعليقات ومقابلات وتوقعات حصرية، ومزيد.

 

ترجمة: إبراهيم محمد علي        Translated by: Ibrahim M. Ali

ماريانا مازوكاتو المديرة المؤسِّسة لمعهد كلية لندن الجامعية للإبداع والأغراض العامة، هي الرئيسة المشارِكة للجنة العالمية لاقتصاديات المياه. نجوزي أوكونجو إيويالا المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، هي الرئيسة المشاركة للجنة العالمية لاقتصاديات المياه، ووزيرة مالية وخارجية نيجيريا سابقا، ورئيسة مجلس إدارة تحالف اللقاحات جافي سابقا. يوهان روكستروم مدير معهد بوتسدام لأبحاث الأثر المناخي وأستاذ علوم نظام الأرض في جامعة بوتسدام، هو الرئيس المشارك للجنة العالمية لاقتصاديات المياه. ثارمان شانموجاراتنام رئيس سنغافورة، هو الرئيس المشارك للجنة العالمية لاقتصاديات المياه ورئيس مجموعة الثلاثين.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024. www.project-syndicate.org

مقالات مختارة

Skip to content