تعمل سامية أبو علقم، البالغة من العمر 53 عامًا، سائقة مركبة عمومية في شركة باصات القدس، التي تشجّع على انضمام سائقات جدد إليها، وتدعو النساء إلى كسر الصورة النمطية والتغلب على العوائق الاجتماعية والقيود المفروضة عليهنّ، حيث لا تقلّ مهارات النساء في القيادة عن مهارات الرجال.
على الرغم من حضور المرأة في الحياة الاقتصادية بشكل واضح، إلا أن مشاركتها لا تزال محدودة بسبب مجموعة من العوامل التي تعزز التبعية الاقتصادية، مثل ضيق فرص العمل، صعوبة الوصول إلى الموارد، وضعف الحماية الاقتصادية. تسعى بعض القوى، بدافع من مصالحها الاقتصادية، إلى الحفاظ على هذه التبعية تحت غطاء من التفسيرات الدينية والتقاليد، وذلك من خلال توزيع المهن المبني على النوع الاجتماعي. هذه النظرة المجتمعية إلى بعض المهن بوصفها مهنًا مخصصة للرجال فقط تشكل عائقًا أمام دخول النساء إلى سوق العمل، وخاصة في المهن التقليدية التي يهيمن عليها الرجال.
وفقًا لدليل التصنيف المهني الفلسطيني، المعتمد من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، هناك 20 مهنة من أصل 118 مهنة لا تمارسها النساء. وهناك أقل من 100 امرأة موزعة على 60 مهنة، ويمكن القول إن 80 مهنة من أصل 118 مهنة تُعتبر تقليدية للرجال. القطاعات الغير التقليدية بالنسبة للنساء هي تلك التي لا تتواجد فيها النساء أو يكون وجودهن فيها ضئيلًا جدًا.
بداية محفوفة بالشكوك والمعيقات
بدأت سامية أبو علقم العمل كسائقة مركبة عمومية منذ أربع سنوات، وتعرضت في البداية للكثير من الشكوك والتعليقات الجارحة، أصعبها كان من سيّدة. لم تقتصر التعليقات السلبية على التقليل من مهارتها في القيادة، بل تضمّنت اتّهامات بأنّها تعمل في هذه المهنة كوسيلة لسرقة المال، ووُصفت بأنها “مسترجلة” فاقدة للأنوثة، وهو شيء لا تستطيع سامية نسيانه.
سامية، الحاصلة على ماجستير في التربية الخاصة والتي عملت سابقًا كمرافقة للأطفال في وسائل النقل المدرسية، قررت تعلم قيادة المركبات العمومية عام 2019 كهواية، دون علم أحدٍ من عائلتها سوى زوجها. تلقّت سامية معارضة من أهل زوجها، معتبرين أنّ هذه المهنة ذات طابع ذكوريّ لا تناسب النساء. كما استغرب البعض من موقف زوجها الداعم لها. كانت البداية صعبة للغاية، حيث تتذكر سامية كيف كانت تعود من العمل باكية وعازمة على الاستقالة. في إحدى المرات، قدمت طلبًا لترك العمل، وأشارت إلى أن ابنها تأثر بتعليقات الناس السلبية وطلب منها التوقف عن العمل، بالإضافة إلى بعض زملائها السائقين الذين نصحوها بالعمل في مجال دراستها.
أحد الفروق في أنماط تشغيل القوى العاملة بين المجتمع العربي واليهودي، هو التركيز المهني الكبير في قطاعات معينة للنساء العربيات، مقارنة بالتوزيع الأكثر تنوعًا للعمالة اليهودية. على سبيل المثال، النساء العربيات واليهوديات يعملن بشكل رئيسي في التعليم والخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية والإغاثة. لكن حوالي 51.9% من النساء العربيات يعملن في هذين القطاعين، مقارنة بـ 38.3% من النساء اليهوديات، ما يدل على تنوع أوسع في تشغيل النساء اليهوديات.
كلما كانت مهنة المرأة تسمح لها بالقيام بدورها الأسريّ والانجابيّ، وقلّ الاختلاط فيها مع الرجال، كلّما كان قبول المجتمع لها أكبر. في بعض الأحيان، يكون الخوف من حديث الناس هو ما يجعل بعض المهن أكثر قبولًا. تنوعت تعليقات الركاب تجاه سامية؛ البعض رآها قدوة يُحتذى بها، بينما شكك البعض الآخر في قدرتها على القيادة. تتذكر سامية كيف قال لها أحد الركاب إنه يقود أفضل منها، فدعت الراكب لتجربة القيادة بدلًا منها. في المقابل، أبدى البعض إعجابهم بمهاراتها واستغرابهم من أنها لم تبدأ العمل كسائقة من قبل.
من أصل 16 ألف سائق للحافلات في البلاد يوجد 200 سائقة فقط!
تؤكد سامية أنّ “قيادة المركبة العمومية تعادل قيادة أربع سيارات في الوقت ذاته”، مشيرة إلى أنّ النساء يقدن سياراتهن بشكل أكثر أمانًا. رغم أن النساء يشكلن 44% من السائقين في البلاد، إلا أنّهنّ يشاركن في 13% فقط من الحوادث المميتة. ففي عام 2023، شارك 594 سائقًا في حوادث مرورية مميتة (على الأقل حالة وفاة واحدة)، وكان منهم 75 امرأة فقط، أي ما نسبته 12.6% من الإجمالي.
عدد النساء العاملات كسائقات في وسائل النقل العام في البلاد لا يزال صغيرًا مقارنة بالرجال. ففي شركة “إيجد” على سبيل المثال، تعمل 24 سائقة فقط من بين حوالي 6000 سائق. وفي شركات مثل “دان” و”متروبوليتان” و”كيم”، يوجد حوالي 10 سائقات في كل شركة من بين مئات السائقين الذكور، أي ما يعادل 200 امرأة فقط من أصل 16,000 سائق حافلة، وذلك اعتبارًا من عام 2016.
تعاون مدير العمل وظروف عمل مناسبة
تستيقظ سامية في الساعة الرابعة صباحًا للوردية الصباحية، حيث يبدأ عملها في السادسة أو أحيانًا السابعة. يتطلب ذلك إنهاء واجباتها المنزلية قبل المغادرة للعمل، مع دعم زوجها لها في البداية. لكن نظرًا لساعات عمله الطويلة، أصبح من الصعب عليه مساعدتها، ما دفع سامية للاستعانة بسيدة لمساعدتها في الأعمال المنزلية. لا يزال المجتمع يعتبر الأسرة والمنزل “حيزًا للمرأة”، حيث يقع على عاتق النساء دور الإنجاب والاعتناء بالمنزل وأعمال الاقتصاد الأسري غير مدفوعة الأجر. ويؤدي عمل المرأة إلى زيادة العبء عليها إن لم يكن لديها من يساعدها. تشير سامية إلى أنها تفضل الوردية المسائية لأنها تمنحها وقتًا أكبر لأداء واجباتها المنزلية في الصباح.
تتمتع سامية ببعض الامتيازات في الشركة كونها امرأة. فهي لا تعمل خلال شهر رمضان أو الأعياد، نتيجة تعاون مديرها معها. كما أنها تستطيع اختيار الخط الذي ترغب في العمل فيه، وهي تعمل حاليًا على خط بيت حنينا – باب العامود (274)، بعدما عملت سابقًا على خط رام الله – القدس، الذي اختارته بنفسها رغم عدم تفضيل مديرها لذلك، لأنّه خط سير تكتنفه العديد من المشاكل وأزمات السير، ويتطلّب عبور حاجز قلنديا. وصفت سامية تلك التجربة بأنها “تجربة لا تُعوّض” رغم صعوباتها.
تؤكد سامية أن المرأة قادرة على التكيف مع مختلف الأدوار مع الحفاظ على أنوثتها، مشيرة إلى أن هذه المهنة ليست سهلة بسبب التعليقات السلبية والمواقف المؤلمة. استغرق الأمر ثلاث سنوات لتتمكن من تغيير الصورة النمطية عن النساء في هذا المجال وتمهيد الطريق لسيدتين أخريين للالتحاق بالشركة من بعدها.
نضال صيام، مدير شركة باصات القدس (51 عامًا)، يشجع انضمام النساء للعمل كسائقات في الشركة، خاصة في الخطوط التي يكون غالبية ركابها من الطلاب والنساء، مثل خط بيت حنينا – باب العامود. فهو يرى أن السائقات يتمتعن بصبر أكبر في التعامل مع الطلاب، كأنهم أبناؤهن. وأكد أنّ سامية سائقة متميزة وقيادتها ممتازة دون مشاكل. وأضاف أن الشركة تفضل وجود السائقات في الخطوط التي تكون فيها المشاكل أقل، مثل عدم وجود حواجز أو مسافات طويلة. ويُفضل وضعهن في خطوط يكون أغلب الركاب فيها من الطلاب. كما أشار إلى أن الشركة توفر مرونة في ساعات العمل للسائقات وتتيح لهن اختيار نطاق الوظيفة بما يتناسب مع ظروفهن. وأوضح أنه لا يمنح ورديات مسائية للسائقات إلا بناءً على طلبهن.
يُضيف نضال: “لو كان بوسعي تحويل خط بيت حنينا – باب العامود إلى خط نسوي خالص، لفعلت ذلك.” حيث تعمل في الشركة حاليًا 3 سائقات فقط مقابل 150 سائقًا.