فقدان البوصلة الوطنية وهجرة العقول: أزمة وجودية تهدّد مستقبل إسرائيل

أيقون موقع وصلة Wasla
طاقم وصلة

في مقال نشره في موقع واينت، قدّم البروفيسور دان بن دافيد، أستاذ الاقتصاد في جامعة تل أبيب ورئيس معهد “شورش” للأبحاث الاقتصادية، تحليلاً عميقًا لما يراه أزمة وجودية تهدد مستقبل إسرائيل. يشير بن دافيد إلى أن التحولات الأخيرة في البلاد، بدءًا من محاولات الانقلاب القضائي وصولاً إلى أحداث السابع من أكتوبر، قد دفعت العديد من الإسرائيليين، خصوصًا من الكفاءات المتعلمة والعاملة في قطاعات حيوية، إلى التفكير بجدية في مغادرة البلاد بحثًا عن حياة أكثر استقرارًا في الخارج.

1024px Departures 8046866265
مطار بن غوريون “الرحلات المغادرة” (صورة تعبيرية)- المصدر: ويكيميديا

هجرة العقول: المشكلة الكبرى

يقول البروفيسور بن دافيد بأنّ هذه التحولات لا يجب أن يُنظر إليها على أنها مجرد اضطرابات سياسية عابرة، بل كجزء من أزمة أعمق قد تؤدي إلى “هجرة العقول” – أي رحيل الأطباء والعلماء وأساتذة الجامعات ومهندسي التكنولوجيا الفائقة إلى خارج البلاد. هذا النوع من الهجرة قد يكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر إسرائيل، حيث يعتمد الاقتصاد الإسرائيلي الحديث بشكل كبير على هذه الفئات ذات المهارات العالية. فإذا فقدت البلاد حتى جزءًا صغيرًا منهم، فإن ذلك سيؤدي إلى تدهور البنية التحتية الحيوية والإنتاجية الوطنية.

ويؤكد بن دافيد أن هذه الظاهرة ليست جديدة تمامًا، فإسرائيل بدأت تشهد هجرة الكفاءات منذ سنوات، لكن الوتيرة زادت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً خلال السنة والنصف الماضية. ويستشهد ببيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي تظهر أن نسبة الأطباء الإسرائيليين الذين يمارسون المهنة في الخارج قد تضاعفت خلال العقدين الماضيين. هذه الهجرة المستمرة تعني أن القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم، تتعرض لضغوط هائلة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار هذه القطاعات.

720px Dan Ben David
البروفيسور دان بن دافيد- المصدر: ويكيميديا

تردّي البنية التحتية الصحية والتعليمية

في تحليله، يشير البروفيسور إلى الانهيار التدريجي في البنية التحتية الصحية والتعليمية في إسرائيل، والذي يصفه بأنه تهديد وجودي لا يقل خطورة عن التهديدات الأمنية الخارجية. فبينما تضاعف عدد سكان إسرائيل منذ عام 1973، فإن عدد أسرّة المستشفيات للفرد انخفض بشكل مقلق بنسبة 47% منذ عام 1977 وحتى عام 2021، مما أدى إلى أن تكون معدلات إشغال المستشفيات في إسرائيل هي الأعلى بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). هذه النسبة المرتفعة من إشغال المستشفيات تعني أن القطاع الصحي الإسرائيلي يواجه ضغطًا غير مسبوق، حيث لا تتوفر الأسِرّة اللازمة لعلاج المرضى بكفاءة.

أما في قطاع التعليم، فيشير بن دافيد إلى أن مستويات التحصيل العلمي في إسرائيل تدهورت بشكل خطير. فبحسب بيانات الامتحانات الدولية، فإن أداء الطلاب الإسرائيليين في الرياضيات والعلوم والقراءة هو من بين الأدنى في الدول المتقدمة. ويؤكد البروفيسور أن هذا التدهور لا يعود إلى الطلاب الدارسين في المدارس الدينية، إذ لا يخضعون لهذه الامتحانات الدولية، بل إن إدراجهم في هذه الامتحانات سيؤدي إلى تدهور إضافي في المعدلات الوطنية.

الفجوة بين الوعي الوطني والواقع الاقتصادي

يتناول البروفيسور في مقاله الفجوة المتزايدة بين الوعي الوطني لدى بعض القطاعات الإسرائيلية والواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي الذي تعيشه البلاد. ففي الوقت الذي ينشغل فيه الكثيرون بالقضايا السياسية والدينية، مثل الصراعات حول القضاء والدين، يتم تجاهل الأساسيات التي تقوم عليها الدولة الحديثة، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. هذا الإهمال، وفقًا لبن دافيد، هو السبب الجذري وراء أزمة الهجرة الحالية، حيث أن الفئات المثقفة والمنتجة لم تعد ترى في إسرائيل مكانًا يمكنها فيه العيش والتطور.

protest tel aviv
من الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية- المصدر: ويكيميديا

أحد الأمثلة الصارخة التي يذكرها البروفيسور هو حالة التعليم العالي. فقد شهدت إسرائيل تراجعًا كبيرًا في عدد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات منذ عام 1973، حيث انخفضت نسبتهم بنسبة 60%. هذا التراجع الحاد لا يعكس فقط نقصًا في الاستثمار في التعليم العالي، بل يدل أيضًا على تحول في الأولويات الوطنية بعيدًا عن دعم البحث العلمي والتعليم.

تفاقم الهجرة العكسية: الخطر المتصاعد

على الرغم من أن إسرائيل شهدت منذ تأسيسها موجات من الهجرة الوافدة، إلا أن البروفيسور يحذر من أن الاتجاه الحالي نحو الهجرة المعاكسة – أي مغادرة الإسرائيليين إلى الخارج – هو اتجاه قد يصبح من الصعب عكسه. فقد أظهرت الأبحاث التي أجراها معهد “شورش” أن نسبة كبيرة من الإسرائيليين في قطاعات الهايتك والصحة والتعليم بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات فعلية للانتقال إلى بلدان أخرى. ويشير بن دافيد إلى أن هذه الهجرة ليست مجرد قرار فردي بل تعكس شعورًا جماعيًا بعدم الثقة في مستقبل البلاد.

ويضيف البروفيسور أن تأثير هذه الهجرة على إسرائيل قد يكون مدمرًا. فإذا استمرت الفئات المنتجة في مغادرة البلاد، فإن الاقتصاد الإسرائيلي سيواجه ضغوطًا هائلة، حيث ستصبح الطبقات العاملة المتبقية غير قادرة على سد الفجوة. هذا سيؤدي إلى زيادة الأعباء على القطاعات الحيوية، ما سيؤدي بدوره إلى تفاقم الأزمة وزيادة عدد الأشخاص الذين يختارون الرحيل.

الختام: دعوة لإعادة التفكير في الأولويات الوطنية

في ختام مقاله، يقدم البروفيسور بن دافيد تحذيرًا واضحًا: إذا لم تتخذ إسرائيل خطوات جادة وسريعة لإعادة بناء بنيتها التحتية الصحية والتعليمية وإعادة الثقة في مؤسساتها الحكومية، فإن البلاد قد تواجه أزمة هجرة واسعة النطاق تهدد بقاءها كدولة حديثة ومزدهرة. ويقول: “إن السنوات القادمة ستتطلب استثمارات هائلة لإعادة بناء ما تم تدميره في جميع أنحاء البلاد”، مشيرًا إلى أن هذه الاستثمارات لا ينبغي أن تقتصر على البنية التحتية المادية، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة تقييم الأولويات الوطنية والقيم التي تقوم عليها الدولة.

مقالات ذات صلة: الكل يُحذّر، لكن ماذا يعني انهيار الاقتصاد الإسرائيلي وكيف سيؤثر على حياتكم اليومية؟

مقالات مختارة

Skip to content