بوسطن ــ إن أصحاب المليارات في قطاع التكنولوجيا من أمثال بِل جيتس، ومارك زوكربيرج، وإيلون ماسك ليسوا بين أكثر الناس ثراء في تاريخ البشرية فحسب، بل إنهم أيضا أقوياء بصورة استثنائية ــ اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. وفي حين يشكل هذا جزئيا انعكاسا للمكانة الاجتماعية التي يُـقرِنها مجتمعنا بالثروة في عموم الأمر، فإن هذه ليست القصة الكاملة.
الأمر الأكثر أهمية حتى من الثروة البسيطة هو أن أصحاب المليارات من أمثال هؤلاء يُنظَر إليهم باعتبارهم عباقرة في مجال ريادة الأعمال يتمتعون بمستويات فريدة من الإبداع، والجرأة، والبصيرة، والخبرة في مجموعة واسعة من الموضوعات. إذا أضفنا إلى هذا حقيقة مفادها أن كثيرين منهم يسيطرون على وسائل اتصال كُـبرى ــ وبالتحديد منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية ــ فسوف نجد سابقة لا مثيل لها تقريبا في التاريخ الحديث.
بوسعنا أن نُـرجِـع صورة رجل الأعمال الغني الشجاع القادر على تحويل العالم إلى البارونات الـنَـهَّـابين في العصر الذهبي على الأقل. لكن أحد المصادر الرئيسية لجاذبيتها الشعبية المعاصرة يتمثل في رواية آين راند بعنوان “حينما هز أطلس كتفيه” (Atlas Shrugged)، التي يجاهد بطلها جون جالت لإعادة خلق الرأسمالية من خلال القوة الخالِـصة الكامنة في مثاليته وإرادته.
بينما احتلت رواية راند لفترة طويلة مكانة مُـعـتَـرَف بها في أذهان رواد الأعمال في وادي السليكون والسياسيين من ذوي الميول التحررية، فإن تأثير نموذجها الأصلي المركزي لا يقتصر على تلك الدوائر. فمن بروس واين (باتمان) وتوني ستارك (الرجل الحديدي) إلى داريوس تانز في المسلسل التلفزيوني “الخلاص” (Salvation)، يشكل المبدعون الأثرياء والمتمرسون في التكنولوجيا الذين ينقذون العالم من كارثة وشيكة عنصرا أساسيا في ثقافتنا الشعبية.
قوة المال
سيظل بعض الأفراد يتمتعون دوما بسلطة أكبر من غيرهم، ولكن ما مقدار السلطة الذي يعتبر أكثر من اللازم؟ قديما، كانت السلطة مرتبطة بالقوة البدنية أو البراعة العسكرية، أما الآن فإن متطلباتها الأساسية تتأتى عادة مما نسميه أنا وسيمون جونسون “قوة الإقناع“، والتي، كما نوضح في كتابنا “القوة والتقدم“، تضرب بجذورها في المكانة أو المهابة. فكلما كانت مكانتك أعظم، كان من الأسهل عليك إقناع الآخرين.
تتنوع مصادر المكانة إلى حد كبير عبر المجتمعات، كما يتباين مدى تفاوت عدم التساوي في توزيعها. في الولايات المتحدة، أصبحت المكانة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمال والثروة أثناء الثورة الصناعية، ونتيجة لهذا ارتفعت فجوة التفاوت في الدخل والثروة إلى عنان السماء. وعلى الرغم من فترات سعت فيها تدخلات حكومية إلى عكس هذا الاتجاه، فإن المجتمع الأمريكي كان دوما مبنيا حول تسلسل هرمي شديد الانحدار.
هذه البنية مُـعـضِـلة لأسباب عديدة. بادئ ذي بدء، نجد أن المنافسة المستمرة على المكانة ــ وقوة الإقناع التي تمنحها ــ تشكل إلى حد كبير علاقة محصلتها صفر، لأن المكانة “خير موضعي“، حيث تعني زيادة مكانتك انخفاض مكانة جارك، كما أن تسلسل المكانة الهرمي الأكثر انحدارا يعني ضمنا أن بعض الناس سوف يكونون سعداء في حين سيكون كثيرون آخرون تُـعَـساء وساخطين.
فضلا عن ذلك، تميل الاستثمارات في الأنشطة ذات المحصلة الصفرية إلى أن تكون غير فعّالة وزائدة عن الحاجة مقارنة بالاستثمارات في الأنشطة ذات المحصلة غير الصفرية. فهل من الأفضل أن تنفق مليون دولار على ساعات رولكس ذهبية أو على تعلم مهارات جديدة؟
كل من الأمرين قد ينطوي على قيمة جوهرية ــ جمال الساعة مقابل الفخر باكتساب معرفة جديدة ــ لكن الاستثمار الأول يشير ببساطة إلى أنك أعظم من غيرك ثراء وأكثر قدرة على الاستهلاك السافر. أما الاستثمار الثاني فهو على النقيض من ذلك يزيد من رأسمالك البشري وقد يساهم أيضا في المجتمع. الأول محصلته صفر إلى حد كبير، والثاني محصلته غير صفرية إلى حد بعيد. الأسوأ من ذلك أن الأول قد يخرج عن السيطرة بسهولة حيث ينفق الجميع مزيدا من المال على الاستهلاك السافر لكي يتسنى لهم البقاء متقدمين على الآخرين.
كثيرا ما يتساءل المعلقون لماذا يحتاج شخص يملك مئات الملايين من الدولارات إلى مئات أخرى من الملايين. الواقع أن قِـلة من الأشياء قد لا يمكنك تحمل ثمنها إذا كنت تمتلك بالفعل 500 مليون دولار، فلماذا إذن تتوق إلى الحصول على مليار دولار؟ لأن لقب “الملياردير” مرتبة من المكانة. وما يهم ليس القدرة على الإنفاق بل المهابة والسلطة التي تضفيها هذه القدرة على المرء مقارنة بأقرانه. في ظل توازن “الثروة هي المكانة“، يصبح الاندفاع الجنوني من جانب فاحشي الثراء لجمع مزيد من الثروة سلوكا حتميا.
دكتاتورية الهواة
يستند ربط قوة الإقناع بالمكانة والمهابة إلى أسس تطورية واجتماعية. فبرغم كل شيء، من المنطقي على المستوى الفردي أن نتعلم من الناس الذين يملكون الخبرة، ومن المعقول أن نربط الخبرة بالنجاح.
علاوة على ذلك، يعود هذا الشكل من التعلم بالفائدة على المجتمعات، لأنه يسهل التنسيق والتقارب نحو أفضل الممارسات. ولكن عندما ترتبط المكانة بالثروة، وتتسع فجوة التفاوت في الثروة بدرجة بالغة، يبدأ الأساس الذي تقوم عليه الخبرة في الانهيار.
لنتأمل هنا التجربة الفكرية التالية. من لديه خبرة أكبر في النجارة ــ النجار الماهر أو ملياردير من أصحاب صناديق التحوط؟ يبدو من الطبيعي أن نختار الأول؛ ولكن كلما زادت الثروة من المكانة، عَـظُـم الوزن الممنوح لآراء ملياردير صندوق التحوط، حتى في مجال النجارة. أو لنتأمل مثالا معاصرا أكثر صِلة. من الذي تحمل آراؤه بشأن حرية التعبير وزنا أكبر اليوم، ملياردير من أصحاب شركات التكنولوجيا أو فيلسوف تصدى لفترة طويلة لهذه القضية، وخضعت أدلته وحججه للتدقيق من قِبَل خبراء مؤهلين آخرين؟ اختار ملايين من الناس على موقع إكس (تويتر) ضمنا الأول.
كلما ازداد انجذابنا إلى توازن “الثروة هي المكانة”، كلما أصبحنا أكثر تقبلا لتفوق وهيمنة أصحاب المليارات من عالَـم التكنولوجيا. مع ذلك، من الصعب أن نصدق أن الثروة قد تكون مقياسا مثاليا للجدارة أو الحكمة، ناهيك عن كونها وكيلا مفيدا للسلطة فيما يتصل بالنجارة أو حرية التعبير. والثروة، فضلا عن ذلك، اعتباطية إلى حد ما دائما. قد نتجادل بلا نهاية حول ما إذا كان ليبرون جيمس أفضل من ويلت تشامبرلين في أوج مسيرته في رياضة كرة السلة، ولكن من حيث الثروة، لا يوجد مجال للمنافسة. ففي حين قُـدِّرَت ثروة تشامبرلين الصافية بنحو 10 ملايين دولار وقت وفاته في عام 1999، فإن ثروة جيمس الصافية تُـقَـدَّرَ بنحو 1.2 مليار دولار.
لا تتعلق هاتان النتيجتان المختلفتان بموهبة كل من اللاعبين أو أخلاقياته في العمل. كل ما في الأمر إن تشامبرلين عاش في وقت لم يكن فيه نجوم الرياضة يحصلون على ذات القدر من التعويض الذي يحصلون عليه اليوم. ويرتبط هذا جزئيا بالتكنولوجيا (فبوسع الجميع اليوم مشاهدة جيمس بفضل التلفزيون ووسائط الإعلام الرقمية)، وجزئيا بالمعايير (فقد أصبح دفع مئات الملايين لنجوم الثقافة ممارسة مقبولة بدرجة أكبر)، وجزئيا بالضرائب (فإذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تفرض معدل ضريبة دخل هامشي عليا فوق 90%، فإن جيمس كان ليحصل على أموال أقل، وكانت فجوة التفاوت في الثروة في الولايات المتحدة لتصبح أقل اتساعا).
على نحو مماثل، لو لم يصبح قطاع التكنولوجيا مركزيا إلى هذا الحد في الاقتصاد، ولو لم يكن مدفوعا بمثل هذه الديناميكيات القوية التي تجعل الفائز يستأثر بكل شيء (وهي جزئيا مسألة اختيار حول الكيفية التي ننظم بها أسواق بعينها)، فما كان أباطرة التكنولوجيا اليوم ليحظوا بهذا القدر من الثراء. وحقيقة أن الضرائب المفروضة على جيتس وماسك أقل لا تجعلهما أكثر حكمة، لكنها بكل تأكيد جعلتهما أكثر ثراء، وبالتالي أكثر نفوذا في ظل توازن “الثروة هي المكانة” السائد.
السلطة مَـفسَـدة
تستفيد مثل هذه الشخصيات أيضا من ديناميكية أكثر خُـبثا وأشد أذى والتي نستكشفها أنا وجونسون في كتاب “السلطة والتقدم“، باستخدام مثال فرديناند ديليسبس. اكتسب ديليسبس مكانة هائلة في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث عُرف بمسمى “الفرنسي العظيم“، نظرا لنجاحه في استكمال حفر قناة السويس على الرغم من المعارضة البريطانية الدائمة للمشروع.
كان ديليسبس يتمتع ببصيرة ثاقبة، وقد أظهر مهارة عظيمة في إقناع الساسة في مِـصر وفرنسا بأن التجارة الدولية البحرية ستصبح شديدة الأهمية. لكنه كان أيضا محظوظا بدرجة هائلة: فقد جرى تطوير التكنولوجيات المأمولة واللازمة لحفر القناة بدون أهوسة (وهو ما كان مستحيلا في مستهل الأمر بسبب كميات التكريك والحفر المطلوبة) في الوقت المناسب تماما لإنقاذ المشروع.
بفضل انتصاره في السويس، اكتسب ديليسبس قدرا عظيما من المهابة. لكن ما فعله بوضعه الجديد لم يخل من عِـظة. فقد أصبح متهورا، وغير متزن، ومتغطرسا، فدفع مشروع قناة بنما في اتجاه غير قابل للتطبيق والذي أدى في نهاية المطاف إلى وفاة أكثر من عشرين ألف شخص وخراب كثيرين آخرين ماليا (بما في ذلك أسرته). إن قوة الإقناع، مثلها في ذلك كمثل أشكال القوة كافة، قد تجعل المرء مغرورا، وغير منضبط أخلاقا، ومخربا، وبغيضا على المستوى الاجتماعي.
وتظل قصة ديليسبس وثيقة الصلة بعالَـمنا اليوم، لأنها تحمل بوضوح أصداء في سلوك كثيرين من أصحاب المليارات اليوم. وفي حين لا يستخدم بعض أغنى الأفراد في أميركا مكانتهم المستمدة من الثروة للتأثير على المناقشات العامة الـحَـرِجة (مثل وارن بافيت)، فإن كثيرين منهم يفعلون ذلك. فلا يتردد جيتس، وماسك، وجورج سوروس، وغيرهم في إبداء آرائهم في الأمور التي تهمهم، وفي حين أنه من السهل الترحيب بمثل هذه المساهمات من أولئك الذين نتفق معهم، فينبغي لنا أن نقاوم هذا الإغراء. من المنطقي للغاية أن يستفيد المجتمع من المعرفة والحكمة التي يتمتع بها أولئك الذين يمتلكون الخبرة في موضوع بعينه، ولكن من غير المجدي والـهَـدّام أن نُـضَـخِّـم مكانة أولئك الذين يتمتعون بالفعل بمكانة ضخمة (ويعملون جاهدين على زيادة هذه المكانة).
طريقة أخرى
بطبيعة الحال، ليس خطأ أصحاب المليارات بالكامل أن السياسة الأمريكية تغذي التفاوت الهائل (وإن كانوا بكل تأكيد يمارسون الضغوط من أجل سياسات تُـخَـلِّـف مثل هذا التأثير). مع ذلك، ينبغي لهم أن يتحملوا المسؤولية إذا أساءوا استخدام المكانة الهائلة التي توفرها لهم الثروة في ظل ظروف فجوات التفاوت المتزايدة الاتساع. يصدق هذا بشكل خاص عندما يستغلون مكانتهم لتعزيز مصالحهم الاقتصادية على حساب مصالح آخرين، أو لاستقطاب مجتمع منقسم بالفعل بخطاب استفزازي أو سلوك يسعى إلى اكتساب المكانة.
إذا كان أصحاب المليارات غير المسؤولين يمارسون بالفعل قدرا كبيرا من النفوذ الاجتماعي، والثقافي، والسياسي غير المستحق، فإن آخر ما ينبغي لنا أن نرغب فيه هو منحهم منتديات عامة أكبر ــ على سبيل المثال، في هيئة شبكات اجتماعية خاصة بهم كما هي الحال الآن مع ماسك من خلال ملكيته لشركة X (تويتر). بدلا من ذلك، ينبغي لنا أن نسعى إلى استخدام وسائل مؤسسية أقوى للحد من قوة ونفوذ أولئك المميزين بالفعل، فضلا عن إعادة النظر في السياسات الضريبية، والتنظيمية، وسياسات الإنفاق التي خلقت مثل هذه الفوارق الهائلة في المقام الأول.
لكن الخطوة الأكثر أهمية ستكون أيضا الأكثر صعوبة. يتعين علينا أن نبدأ في إجراء محادثة جادة حول ما ينبغي لنا أن نقدره، وكيف يمكننا الاعتراف بمساهمات أولئك الذين لا يملكون ثروات هائلة ومكافأتهم. في حين قد يتفق معظم الناس على توفر طرق عديدة للمساهمة في المجتمع، وأن التفوق في المهنة التي يختارها المرء يجب أن يكون مصدرا للرضا الفردي وتقدير الآخرين، فقد تجاهلنا هذا المبدأ، وأصبحنا عُـرضة لخطر نسيانه تماما. وهذا أيضا أحد أعراض المشكلة.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
دارون عاصم أوغلو أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هو المؤلف المشارك (مع سيمون جونسون) لكتاب “القوة والتقدم: صراعنا الذي دام ألف عام حول التكنولوجيا والرخاء” (PublicAffairs, 2023).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org