القدس مدينة متناقضة بتركيبتها السكانية المتنوعة، يعيش فيها الفلسطينيون واليهود والمتدينون والعلمانيون، بالإضافة إلى الأثرياء والفقراء. تتميز القدس بأنها أكبر مدينة من حيث المساحة، ويصل تعداد سكانها إلى حوالي 930,000 نسمة. تنعكس هذه التناقضات على أسعار العقارات وحجم الطلب عليها، ما يزيد من خصوصية وتعقيد السوق العقاري فيها. الحكومة الإسرائيلية وأجهزة الحكم المحلي في القدس تتبنى سياسات معادية تجاه السكان الفلسطينيين، وتعتبرهم عقبة تسعى إلى الحد من نموهم عبر مجموعة من القيود والتعقيدات. نتيجة لذلك، تواجه المدينة صراعات دائمة، أبرزها أزمة السكن وسوء التخطيط، إضافة إلى سياسة هدم المنازل بحجة البناء غير المرخص، وذلك بهدف خلق واقع ديموغرافي وجغرافي يخدم تعزيز السيادة الإسرائيلية في شرق المدينة ويحبط أي تحدٍّ مستقبلي لها من قبل السكان الفلسطينيين. هذه السياسات التمييزية تؤثر بشكل خاص على الأزواج الشابة، حيث يعانون من ارتفاع أسعار الشقق وتكاليف تراخيص البناء، إلى جانب الارتفاع المستمر في أسعار الإيجارات.
أمير حمودة (31 عامًا)، متزوج حديثًا ومن سكان القدس، استأجر منزلاً بمساحة 85 مترًا مربعًا في منطقة جبل المكبر، ويدفع إيجارًا شهريًا يقارب 1000 دولار. حاول أمير العثور على منزل بإيجار أقل، ولكنه لم يجد سوى في منطقتي مخيم شعفاط وكفر عقب، حيث تتراوح أسعار الإيجار بين 1500 و2300 شيكل شهريًا. أمير لا يفضل السكن هناك بسبب عمله هو وزوجته في القدس، وصعوبة التنقل عبر الحواجز، وخاصة في الظروف الراهنة.
يقول أمير: “لم أجد بيتًا للإيجار في سلوان حيث تسكن عائلتي، إذ لا تتوفر شقق للإيجار هناك. أما في مناطق مثل بيت حنينا وشعفاط، فرغم توفر المباني الجديدة، إلا أن أسعار الإيجار خيالية تتراوح بين 1300 و1600 دولار شهريًا، وحتّى المساحات الصغيرة في الأبنية الصغيرة، لا يقل الإيجار فيها عن 3500 شيكل شهريًا، وعدد الشقق المعروضة محدود جدًا“. يبحث أمير الآن عن منزل للتملك، ولكن الدفعة الأولى المطلوبة تصل إلى 150 ألف دولار، وهو مبلغ خيالي كما يقول، ما يدفعه للتفكير في قرض سكني ملائم لتسديدها. يُعبّر أمير عن استيائه من قلة المؤسسات الداعمة للسكن في القدس، مؤكدًا أن هذه مشكلة يعاني منها نصف السكان في المدينة، حيث يقوم بعضهم بالسكن في الضفة الغربية وإبقاء عنوان إقامتهم في القدس (للحفاظ على التأمين الصحي، وعدم تهديد إقامتهم في المدينة). لكنّ أمير يؤكّد أنّه لن يقوم بذلك، لما لذلك من نتيجة سلبيّة يترتب عليها إفراغ القدس من أهلها وجعلها فارغة دائمًا خصوصًا في ساعات المساء.
مستوى المعروض من الشقق منخفض جدًا، وبلغ متوسط سعر الشقة في إسرائيل في الربع الثاني من عام 2024 نحو 2.3 مليون شيكل، بزيادة قدرها 9% مقارنة بمتوسط سعر 2.1 مليون شيكل في العام الماضي. يأتي هذا وسط طلب مرتفع على الشقق على الرغم من تباطؤ قدرة المواطنين ورغبتهم في الشراء نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة خلال أشهر أبريل ومايو 2023 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. يدفع اتجاه ارتفاع الأسعار الحالي العديدَ من سكان المدينة نحو سوق الإيجار.
وفقًا لتحليل موقع “واينت”، تظهر بعض المدن مثل كفار سابا، وحيفا، والقدس نسبة بناء منخفضة، حيث يتم بناء ما يتراوح بين 1 إلى 3 شقق فقط لكل ألف نسمة. ويعيش في القدس حوالي 358,804 فلسطينيًا يشكلون نحو 38% من إجمالي السكان. وتشير بيانات بلدية القدس إلى أنّ متوسط عدد الوحدات السكنية في جميع التصاريح الممنوحة يبلغ 10.5 وحدة لكل تصريح، مقارنة بـ 3.5 وحدة سكنية فقط لكل تصريح في الأحياء الفلسطينية، ما يعكس تباينًا كبيرًا في حجم وتنظيم البناء بين القدس الغربية والقدس الشرقية.
في القدس الغربية، يتم البناء بشكل منظم على نطاق واسع مع مشاريع كبيرة ومباني شاهقة، في حين يتسم البناء في القدس الشرقية بأنه محدود ومتقطع، يتركز في مشاريع صغيرة لمرة واحدة. ويأتي هذا التباين نتيجة لسياسات تمييزية ممنهجة منذ عام 1967، حيث تدفع إسرائيل سكان القدس الشرقية للبناء دون ترخيص من خلال مصادرة الأراضي لصالح المستوطنات، وتقليص خطط البناء في الأحياء الفلسطينية، وتعاقبهم باستخدام سياسة الهدم المخطط لها مسبقًا.
ورغم ذلك كلّه، يوجد غياب لجهات التمويل للسكن في القدس باستثناء مجلس الإسكان، حيث بدأت بعض البنوك العربية والفلسطينية بتقديم تسهيلات مصرفية لتمويل شراء مساكن في القدس. في المقابل، تفرض البنوك الإسرائيلية قيودًا صارمة على منح قروض الإسكان للفلسطينيين، حيث يصعب على سكان القدس تلبية شروط هذه البنوك، التي تتضمن ضرورة امتلاك وثيقة طابو تثبت ملكية الأرض، بالإضافة إلى وثيقة تؤكّد سداد جميع الضرائب المستحقة، وأن تكون الأرض صالحة للبناء مع توفر رخصة بناء. وعلى الرغم من أن البنوك الإسرائيلية قدمت قروضًا طويلة الأجل في بداية الثمانينيات، إلا أنها لم تكرر هذه التجربة لاحقًا.
لكي تعيش في بيئة مجتمعية جيدة عليك دفع ذلك من جيبك
علي سومر، 31 عامًا، متزوج حديثًا ويعيش مع زوجته مؤقتًا في منزل عائلته في بيت حنينا، حيث تتسع مساحة المنزل لاحتضانهم حتى اكتمال تجهيز بيتهما الجديد. دفع علي دفعة أولى بقيمة 200 ألف شيكل من السعر الكلي البالغ 800 ألف شيكل، بمساحة تصل إلى 150 مترًا مربعًا، وسيصبح صالحًا للسكن بعد حوالي سنة ونصف.
يقول علي: “رغم ارتفاع الأسعار وتوفر البيوت بأسعار أقل في أماكن أخرى، كنتُ مصرًّا علي على البحث عن منزل في منطقة توفر بيئة اجتماعية مناسبة وغير مكتظة سكنيًا. قبل السكن مع عائلتي، حاولتُ إيجاد شقة مفروشة للإيجار مؤقتًا بسعر مناسب، ولكنّ الأسعار كانت استغلاليّة ومرتفعة للغاية، حيث يبلغ إيجار الشقة المفروشة حوالي 1500 دولار شهريًا”. وعن كيفية تأمينه للدفعة الأولى لشراء البيت، يقول علي: “لم أحصل على قرض، قمتُ بدفعها من مدخراتي الشخصية، فلا أؤمن بالقروض لما يتخللها من ربا. ولا يوجد قرض ميسر في متناول اليد، فمجلس الإسكان الفلسطيني، على سبيل المثال، يمنح قرضًا غير كافيًا يتراوح بين 100-200 ألف دولار، بينما سعر البيت يبلغ 600 ألف دولار“.
يتجلى التمييز في مجال التخطيط والبناء في القدس الشرقية، حيث تُخصص 15% فقط من مساحتها، أي ما يعادل 8.5% من مساحة القدس، لسكن الفلسطينيين، بينما تصل الكثافة السكانية في الأحياء الفلسطينية إلى 1.8 نسمة لكل غرفة، ما يقارب ضعف الكثافة في الأحياء اليهودية في غرب المدينة. تعتبر المدخرات الشخصية والعائلية المصدر الأساسي لتمويل السكن في القدس، وتعكس سياسات البلدية الإسرائيلية تفرقة عنصرية واضحة، حيث لم تتجاوز استثمارات البلدية في القدس الشرقية 10% من ميزانيتها على مدار الأربعين عامًا الماضية، رغم أن الفلسطينيين يشكلون ثلث السكان ويساهمون بحوالي ثلث الضرائب المدفوعة للبلدية. هذا النقص في الإسكان يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنازل وزيادة تكاليف الإيجارات، بشكل لا يتناسب أبدًا مع مستوى الدخل.
تهجير صامت الى ما وراء جدار الفصل العنصري
موسى مهلوس، 31 عامًا، يقيم في كفر عقب. بدأ حياته الزوجية باستئجار شقة مقابل ألفي شيكل شهريًا لمساحة تتراوح بين 180 و200 متر مربع، ثم قام بشراء شقة بمساحة 180 مترًا مربعًا بسعر كلي نصف مليون شيكل، ودفعة أولى بلغت 150 ألف شيكل بعد حصوله على قرض من بنك لئومي. يقول موسى: “ما زلتُ أُسدّد أقساط القرض السكني، وأدفع 3500 شيكل شهريًا لسداد سعر البيت، بالإضافة إلى حوالي 500 شيكل شهريًا لتكاليف الماء والكهرباء والخدمات، التي تُعتبر أقل تكلفة من مثيلاتها في القدس”.
يتحدّث موسى عن سبب اختياره كفر عقب: ” اخترت كفر عقب للسكن بسبب توفر خدمة المواصلات بشكل أفضل مقارنةً بمناطق أخرى مشابهة، مثل مخيم شعفاط، ففي ساعات الذروة صباحًا، أحتاج 25 دقيقة فقط لاجتياز حاجز قلنديا باستخدام مسلك المشاة، و45 دقيقة إجمالًا للوصول إلى عملي في القدس. أرى في كفر عقب مدينة نابضة بالحياة توفر كل الخدمات على مقربة مني، ولم يكن بإمكاني استئجار بيت في راس العامود، حيث تقيم عائلتي، فالإيجار هناك يصل إلى 3500 شيكل شهريًا، بينما أحتاج مليون شيكل على الأقل لشراء شقة في القدس“.
يُدفَع المزيد من السكان سنويًا إلى الانتقال إلى أحياء خارج جدار الفصل العنصري، مثل كفر عقب، تُصنّف على الورق بأنّها تابعة لبلدية القدس، حيث يعيشون في بناء كثيف غير منظّم. أدى هذا إلى ما يُعرف بالتهجير الصامت إلى أطراف وضواحي القدس، حيث يسود الاكتظاظ والبناء العشوائي والحواجز العسكرية التي تفصلها عن مركز المدينة وتؤثر على حياتهم اليومية. توقفت السلطات الإسرائيلية عن تنظيم البناء في تلك المناطق، حيث سمحت بالبناء العشوائي دون ترخيص، ما جعلها تبدو كالعشوائيات، محرومة من تخطيط حضري منظم. قامت إسرائيل فعليًا بإخراج أحياء كاملة من الحدود الفعلية لبلدية القدس عبر الجدار، ولم تعد تصدر رخص بناء فيها، ما يعني عدم وجود أي مؤسسة حكم محلي مسؤولة قانونيًا عن هذه المناطق.
ومع ذلك، تستمر البلدية في تقديم بعض الخدمات لسكانها الذين ما زالوا يدفعون ضريبة الأملاك المرتفعة (الأرنونا). وقد أدى الجدار إلى عزل نحو 145 ألف فلسطيني من القرى والبلدات المحيطة بالقدس، كجزء من سياسات تهدف إلى الحدّ من وجود السكان الفلسطينيين في المدينة.
40 ألف شقة سنويًا للخروج من الازمة
أوضح خليل التفكجي، الخبير في شؤون القدس والاستيطان والمدير السابق لقسم الخرائط في بيت الشرق، أنّ جذور أزمة السكن تعود إلى عام 1973، عندما تم تشكيل لجنة تدعى “لجنة أرنون جيفني” بأمر من رئيسة الوزراء حينها غولدا مائير. أوكلت اللجنة لأرنون جيفني، محافظ بنك إسرائيل في ذلك الوقت، جميع الصلاحيات القانونية والمعنوية والمادية لضمان أن يشكل العرب 25% من سكان القدس، بينما يشكل اليهود 75%، بهدف الحفاظ على أغلبية يهودية وأقلية عربية في المدينة. لتحقيق هذا الهدف، استخدمت السلطات الإسرائيلية قانون أملاك الغائبين، وقانون المصادرة للمصلحة العامة، وقانون التنظيم والبناء بعد عام 1967.
وأضاف التفكجي أن المناطق الخضراء في البلاد تُعد احتياطًا استراتيجيًا لبناء مستوطنات مستقبلية، حيث تستند السياسة الإسرائيلية إلى ثلاث ركائز: تطويق الأحياء العربية بالمستوطنات، ومصادرة الأراضي لمنع قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا عاصمتها القدس الشرقية، ما يعزز السيطرة الأمنية، واختراق الأحياء الفلسطينية بإقامة مستوطنات فيها، مثل الشيخ جراح وسلوان، وتحويلها إلى أحياء بأغلبية يهودية وأقلية عربية. كل هذه السياسات أدت إلى تفاقم أزمة السكن الحادة التي تتطلب بناء 40 ألف شقة سنويًا لحلها.
التفكجي أوضح أن البناء بدون ترخيص هو أحد المظاهر الأكثر حدة لأزمة السكن في القدس، وقد بدأ هذا النوع من البناء بشكل مكثف منذ عام 2015 في ظل ندرة الأراضي المتاحة للبناء، وفرض مساحات شاسعة كمناطق خضراء، وتعقيدات إثبات ملكية الأراضي (الطابو). منذ العهد الأردني، برزت أربعة أنواع من الملكيات، منها إخراج القيد، حيث سجل بعض أجدادنا جزءًا من أراضيهم فقط (دونمين مثلًا بدل من 10 دونمات) لتقليل الضرائب. هذا أدى، نتيجة للوراثة، إلى تفتيت الملكيات، إذ تُثبّت ملكية الأراضي فقط للأجزاء المسجلة (دونمان فقط في مثالنا)، ما سبب معاناة واسعة في القدس. والأخطر من ذلك هو ما يُعرف بـ”جدول الادعاءات”؛ أي لو كان لدي ارض منذ 50 عامًا وانتقلت لأولادي بحكم الوراثة وكان أحدهم يسكن خارج البلاد، تُسجّلها الدولة كأملاك غائبين للسيطرة عليها.
وأضاف التفكجي أنه في عام 2015، عُقد اجتماع حضره وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري، والملك عبد الله، ورئيس الوزراء نتنياهو، وقال كيري بعد الاجتماع إنّ بيت حنينا ستكون عاصمة مستقبلية، ما ترتب عليه الآن البناء الكثيف بارتفاعات تصل إلى 10 طوابق وبزيادة تتجاوز 400%. مثال على ذلك هو مشروع بشار المصري “لنا القدس” الذي يضم 400 وحدة سكنية، والذي يهدف إلى جذب السكان من المركز، مثل البلدة القديمة ووادي الجوز، إلى خارج حدود بلدية القدس الأردنية التي تبلغ مساحتها حوالي 6.5 كيلومتر مربع.
تصل تكلفة الحصول على رخصة بناء في القدس إلى 40 ألف دولار، ويستغرق إصدارها ما بين ستة أشهر إلى سنة. أما تكلفة شراء شقة بمساحة 110 متر مربع فتصل إلى 650 ألف دولار، وفي حال عدم القدرة على الشراء يتجه السكان إلى سوق الإيجارات، حيث تصل تكلفة إيجار الشقة إلى نحو 2000 دولار شهريًا، غير شاملة تكاليف الماء والكهرباء والأرنونا. وقد أكد التفكجي أن ارتفاع الطلب مع نقص الوحدات السكنية أدى إلى زيادة كبيرة في أسعار الإيجارات. ويعتبر “مشروع نسيبه” في بيت حنينا، الذي وفر حوالي 600 وحدة سكنية، من أكبر المشاريع السكنية في القدس حتى الآن، وقد اعتمد تمويله على المستثمر نفسه.
ورغم أن الإسكان يخضع عالميًا لقوانين السوق من عرض وطلب واستثمارات حكومية وخاصة، إلا أن السكن في القدس قضية سياسية بامتياز. يقع على عاتق الدولة المسؤولية الأساسية لضمان السكن الملائم لمواطنيها، من خلال سن القوانين المشجعة للاستثمار في قطاع الإسكان وتوفير ضمانات للقروض السكنية. ولابد من إتاحة الفرصة لمحدودي الدخل لشراء مساكنهم على دفعات تُعادل الإيجار الشهري. في ظل استمرار الوضع الحالي في الأحياء الفلسطينية بالقدس، فإن أسعار الأراضي سترتفع بشكل كبير، لأن نسب البناء لا تتجاوز 70% في أغلب الأحيان.
مقالات ذات صلة: سامية أبو علقم من مرافقة لطلاب المدارس إلى سائقة باصات في القدس