في تطور قد يغير مسار العلاقات الدولية لإسرائيل، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوأف غلانت. القرار، الذي تناولته وسائل الإعلام الدولية والإسرائيلية، بما في ذلك صحيفة “ذا ماركر”، يثير تساؤلات عميقة حول تداعياته على إسرائيل سياسيًا واقتصاديًا، وخصوصًا في سياق علاقتها مع أوروبا.
ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية انطلقت من اتهامات للمحكمة بالتحيز ومعاداة السامية، لكن خبراء قانونيين إسرائيليين يحذرون من أن هذه الخطابات لا تكفي للتعامل مع تحدٍ بهذا الحجم. المحامي يوفال ساسون، الذي شغل سابقًا منصبًا بارزًا في النيابة العامة الإسرائيلية، أشار في حديثه مع ذا ماركر إلى أن “الاعتماد على اتهام المحكمة بمعاداة السامية لن يغير الواقع”، محذرًا من أنّ هذا القرار سيدقّ المسمار الأخير في نعش إسرائيل، والذي سيحولها إلى دولة أبارتهايد، على غرار جنوب إفريقيا في الثمانينيات، التي لفظها العالم.
التداعيات على العلاقات الدولية والاقتصاد
قرارات المحكمة قد تدفع العديد من الدول الأوروبية إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا تجاه إسرائيل. بعض الدول، مثل فرنسا وألمانيا، أعربت عن استعدادها لاحترام أوامر الاعتقال، ما يعني أن زيارات نتنياهو وغلانت إلى هذه الدول قد تصبح مستحيلة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الخوف الأوروبي من بوتين، فأي استهتار بقرارات المحاكم الدولية سيقوّض تأثير هذه القرارات أيضًا على روسيا، والتي تخوض حربها على مرمى حجر من أوروبا.
من جهة أخرى، فإن هذه القرارات قد تؤثر أيضًا على صادرات الأسلحة الإسرائيلية، حيث يمكن أن تُفسر هذه الصادرات على أنها تُستخدم في جرائم حرب، ما يمنح الدول الأوروبية الذريعة لفرض قيود أو حتى حظر على التعاون العسكري.
القطاع الخاص الإسرائيلي ليس بمعزل عن هذه التداعيات. الشركات التي توظف أفرادًا خدموا في الجيش الإسرائيلي قد تواجه تحديات قانونية في تعاملاتها مع الأسواق الأوروبية. كذلك، فإن شركات التكنولوجيا والصناعات الدفاعية الإسرائيلية قد تُدرج على قوائم سوداء، مما سيؤدي إلى تعقيدات بيروقراطية إضافية ويضع قيودًا على أنشطتها.
ساسون أكد أن الوضع قد يؤدي إلى “زيادة كبيرة في متطلبات الامتثال القانوني”، مثل تقديم إقرارات رسمية تُثبت عدم ارتباط الشركات الإسرائيلية بأنشطة تخالف القانون الدولي. وقد تضطر شركات إسرائيلية إلى التصريح بعدم التعامل مع الجيش الإسرائيلي أو المستوطنات في الضفة الغربية، وهو ما قد يكون مستحيلًا خصوصًا في شركات الهايتك التي تجمعها علاقات وثيقة مع الجيش.
هل تصر إسرائيل على بناء أسوار حول نفسها؟
العديد من المحللين يشيرون إلى أن هذه التطورات هي نتيجة سياسات طويلة الأمد انتهجتها إسرائيل دون النظر إلى العواقب الدولية. انضمام السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2015 كان خطوة استراتيجية تهدف إلى عزل إسرائيل دوليًا، وتنامي تأثير المنظمات غير الحكومية والهيئات الحقوقية العالمية ضد إسرائيل، وحركات المقاطعة مثل BDS، يعكس نجاحًا جزئيًا لهذه الاستراتيجية.
يقول ساسون بهذا الصدد: “عليك أن تفهم أنه على الجانب الآخر هناك أشخاص لديهم الكثير من المال، وأحزاب توظف محامين جادين، وهم يعملون بعزم على هذا الأمر.”
ويشبه ساسون الوضع الحالي بمسار جنوب إفريقيا في الثمانينيات، عندما قادت سياسة الفصل العنصري (الأبارتهايد) إلى عزلتها الدولية. ويحذر من أن تجاهل هذه التحذيرات سيدفع إسرائيل نحو نفس المصير، وبأنّ الادعاء بإمكانية استمرار إسرائيل في عزلة بعيدًا عن العالم، لا أساس له من الصحة، وأنّه ربما كان صحيحًا قبل مئات السنوات.
ردود الفعل الداخلية الإسرائيلية
الحكومة الإسرائيلية، بدلاً من التركيز على بناء استراتيجية لمواجهة تداعيات قرارات المحكمة، انخرطت في خطوات وصفتها بعض الأوساط بأنها تعزز الاتهامات الدولية. على سبيل المثال، قرار وزير الدفاع الإسرائيلي بتطبيق معايير مزدوجة بين اليهود والعرب وقصر الاعتقالات الإدارية على العرب أضاف الوقود إلى اتهامات الأبارتهايد.
إضافةً إلى ذلك، تستمر الحكومة في تمرير تشريعات مثيرة للجدل تسهم في تأكيد عدم استقلالية النظام القضائي الإسرائيلي وتزيد بالتالي من شرعية تدخل المحاكم الدولية، مثل تقييد صلاحيات القضاء، والمساعي لإقالة المستشارة القانونية للحكومة. كذلك، فإنّ حتى ادعاءات نتنياهو بوجود مؤامرة ضده في قضية التسريبات الحكومية، يوحي بنظام سياسي غير مستقر وغير ناضج.
يقول ساسون: “من المحتمل أن تكون قد صدرت أوامر اعتقال سرية بحق جنود إسرائيليين، ولكن هذا مجرد جانب واحد فقط”،ويضيف ساسون. “يمكن لشخص مقيم في غزة ويحمل جنسية مزدوجة اليوم تقديم شكوى في مكان إقامته الجديد، وبموجب أوامر الاعتقال الصادرة في لاهاي، يمكنه الادعاء بارتكاب جرائم حرب من قبل قائد فرقة، أو طيار، أو حتى جندي قام بنشر فيديو فكاهي على تيك توك“.
ماذا بعد؟
الموقف الراهن، حسب الأصوات الإسرائيلية العقلانية، يشدد على ضرورة أن نخفض إسرائيل حدة التصعيد، وأن تركز على بناء استراتيجية قانونية ودبلوماسية محكمة. إنشاء لجنة تحقيق مستقلة لتحليل الادعاءات ضد إسرائيل يمكن أن يكون خطوة أولى لاستعادة الثقة الدولية. لكن استمرار الحكومة في تجاهل هذه التحديات والتركيز على تشريعات داخلية تزيد من الانقسامات قد يقود إلى تعميق العزلة الدولية وتفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية.
في ظل هذه الظروف، تبدو إسرائيل أمام مفترق طرق حاسم. إما تبني خطوات تصالحية ومراجعة سياساتها، أو مواجهة مسار قد يضعها على طريق عزلة دولية طويلة الأمد.
مقالات ذات صلة: هل ستتوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل بعد مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت؟