كثيرًا ما يغفل أصحاب الأعمال والإداريون عن الدور الحاسم للتخطيط الاستراتيجي في نجاح شركاتهم ومؤسساتهم. ففي كثيرٍ من الأحيان، يتشتت انتباههم بين التحديات العاجلة والسعي لتحقيق كفاءة تشغيلية، ما يؤدّي بهم إلى إسقاط الاستراتيجيّة من برنامجهم، لأنّها في نظرهم “غير عاجلة”، وهو ما يحوّل غيابها إلى أزمة حقيقية تُفاقم المشكلات وتؤدي إلى خسائر جسيمة، خاصة في الأوقات الحرجة، كجائحة كورونا والحرب الأخيرة.
تُظهِر تجارب المؤسسات الناجحة، على اختلاف أنواعها، أهمية الالتزام بالاستراتيجية في الإدارة كجزء أساسي لضمان الاستدامة وتحقيق الأهداف، لذلك يجب:
- إدماج الاستراتيجية ضمن أولويات الإدارة: يجب أن تصبح الاستراتيجية محورًا أساسيًا يُوجّه أعمال المؤسسات.
- التخطيط للاستراتيجية: عبر مناقشة القضايا الاستراتيجية، والتحضير لاجتماعات الإدارة التي تناقش الأبعاد الاستراتيجية، وتوفير أساليب اتخاذ القرارات بناءً عليها.
- تقييم تأثير غياب الاستراتيجية: دراسة العواقب المترتبة على عدم الالتزام بها.
- الاستعانة بالخبرات المهنية: لضمان بناء وتنفيذ استراتيجيات فعّالة.
على عكس ما يعتقد البعض، ليست الاستراتيجية هي التخطيط السنوي، ولا خطط العمل، بل هي بمثابة بوصلة من أجل ضمان التقدم والنجاح. هي تجيب عن “ماذا” و”كيف” يجب أن تُدار وتعمل المؤسسة، حيث تحتوي على مركبات هامة، تساعد على اتخاذ قرارت عالية المستوى، وعلى تحديد أهداف بعيدة المدى، دون الخوض في تفاصيل التنفيذ.
أما الخطط السنوية، فهي تترجم الاستراتيجية إلى خطوات عملية وتكتيكية لتحقيق الأهداف قصيرة المدى، عبر الإجابة عن أسئلة من قبيل “كيف” و”مَن” و”متى”.
رغم أهمية الكفاءة والفاعلية والإنتاجية في نجاح الأعمال والمؤسسات، إلا أنها لا تُعد بديلاً عن الاستراتيجية. في كثير من الأحيان، يؤدي التركيز المفرط على الكفاءة التشغيلية إلى تراجع البعد الاستراتيجي للشركة، حيث تنشأ قناعات خاطئة وأنصاف حقائق من النجاحات المحدودة هنا وهناك. هذا النهج، المدفوع بالتنافسية المفرطة، قد يركز على تحقيق مكاسب قصيرة الأجل دون إحداث أثر دائم في أذهان الناس على المدى البعيد.
يتطلب التخطيط الاستراتيجي مستوى عالٍ من الوعي والشفافية، إلى جانب التفكير النقدي والتحليل والتقييم الواقعي لحالة الشركة. كما يستلزم الاستعانة بخبرات مهنية، والقدرة على التخلي عن بعض القرارات التي قد تبدو مغرية للإدارة، وتُغذي دوافع قصيرة المدى على حساب الأهداف الاستراتيجية طويلة الأمد.
تتطلّب عمليّة وضع الاستراتيجية تحديد الإطار العام والرؤيا والأهداف والاتجاهات والغايات طويلة المدى للمؤسسة، بما يضمن تحقيق الاستدامة والنجاح والتقدم. تعتمد هذه العملية على أخذ قدرات المؤسسة بعين الاعتبار، ومزاياها التنافسية، ونقاط قوتها، ومواردها.
وتكمن أهمية الاستراتيجية في مدى تداولها وتطبيقها داخل الاجتماعات الإدارية، وبين الموظفين، وفي مختلف الأقسام، حيث تُعد بوصلة أساسية لتطوير الخطط والنهج، وتعزيز الجهود التسويقية والتكتيكية لتحقيق الأهداف المنشودة.
تشمل الاستراتيجية أربعة مكونات رئيسية:
- المهمة وأسباب الوجود
- الرؤيا بعيدة المدى
- التميز
- الأهداف العامة
المهمة
تُحدد المشكلة الفريدة التي تسعى الشركة وإدارتها إلى معالجتها، والتأثير الذي ينشدون تحقيقه. “المهمة” هي مُلخّص موجز يُعبِّر عن قيم المؤسسة وأفكارها، ويُبرِز أسباب وجودها وأولوياتها العامة. هذه المهمة تُوجه الإدارة والموظفين، وتحفزهم على التركيز والعمل المستمر، كما تُطمئن أصحاب العلاقة والمساهمين بشأن مستقبل الشركة.
تُسهم “المهمة” في تعزيز إدراك الإدارة والموظفين لقيمة أعمالهم وأهدافها، من خلال تقديم أسباب واضحة للانتماء وأدوار تخدم غايات أكبر. كما تُساعدهم على رؤية الجوانب الإيجابية لأنشطتهم، ما يُعزز الروح المعنوية ويؤسس لاستثمار طويل الأمد في الثقافة التنظيمية للشركة أو المؤسسة.
الرؤيا
الرؤيا هي بوصلة الاتجاه الصحيح للمؤسسة وأهدافها وتطلعاتها بعيدة المدى.
إنها تصف الصورة المستقبلية للمؤسسة، وتُجيب على أسئلة محورية: كيف سيكون حال المؤسسة وأداؤها ومكانتها بعد 5 إلى 10 سنوات؟ ماذا ستُحقِّق؟ ولصالح من؟
بدون رؤيا واضحة، غالبًا ما تتعرض المؤسسة للانحراف عن رسالتها وأسباب وجودها، وسيكون العمل مجرّد روتينٍ لتمرير الوقت، دون قيمة تراكمية حقيقية، أو بصمات مؤثّرة، ما يحول دون تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
من جانب آخر، فإن الرؤيا التي تفتقر إلى خطط عملية قابلة للتنفيذ تبقى مجرد حلم غير قابل للتحقق. لذلك، من الضروري المزج بين رؤيا طموحة وخطط مدروسة وتنفيذ فعّال لضمان تحويل الطموحات إلى إنجازات واقعية.
التميّز
التميز هو ما يجعل أعمال الشركة ومنتجاتها أفضل وأكثر جاذبية، ويُحدّد مكانتها في السوق، بالمقارنة مع البدائل الأخرى. ويتمّ ذلك، بناءً على مجموعة من الفوائد والخصائص الملموسة التي تلبي احتاجات المستهكلين، بالإضافة إلى الانطباعات غير الملموسة التي تتركها المنتجات في أذهانهم، ما يؤثر على قراراتهم ويدفعهم لتفضيل منتجات الشركة على غيرها.
أحيانًا، يكون تميّز الشركة وموضعها لدى الجمهور متناسبًا مع ما تقدّمه لهم، وأحيانًا أخرى يكون أقل من مستوى الجودة الفعلية للشركة، ومن المحتمل أيضًا أن تكون صورتها في الأذهان تتجاوز ما تستحقه فعليًا، وكثيرًا ما تكون صورتها غير واضحة ومشوشة ما يُثير الشكوك لدى الجمهور.
التميّز، يُبرز الخصائص التي تجعل الشركة أو المنتج مختلفًا عن المنتجات المنافسة، وعن استراتيجيات الشركات في الفئة نفسها. إنه أداة لخلق قيمة فريدة تُرضي احتياجات الجمهور المستهدف بأفضل صورة ممكنة. ويُحدد التميز كيف ترغب الإدارة بأن يرى الجمهور منتجاتها، وكيفية تفكيرهم حول فوائدها وخصائصها.
يمكن أن يتجلى التميز في عوامل ملموسة مثل الطعم، اللون، السعر، الحضور، أو الجمال، كما يمكن أن يكون غير ملموس، مثل المشاعر أو الآراء الإيجابية التي تتشكل في أذهان الجمهور المستهدف. يُعد التميز أداة أساسية لتعزيز ثقة الزبائن وترسيخ مكانة الشركة في السوق.
الأهداف العامة
هي الأولويات التي يجب أن تُركّز عليها الإدارة لتحقيق النجاح. تُعبر عن ما يجب إنجازه لضمان تحقيق رؤيا المؤسسة وأسباب وجودها وقيمها على المدى المتوسط والبعيد. تشمل هذه الأهداف طموحات للتقدّم، ضمن اتجاهات وأُطُرٍ عامّة،يتمّ تحديدها من خلال التقييم الاستراتيجي.
يمكن صياغة هذه الأهداف من خلال عملية التقييم الاستراتيجي التي تعتمد على تحليل شامل للمؤسسة. يشمل ذلك استخدام أدوات مثل تحليل SWOT لتقييم نقاط القوة والضعف، بالإضافة إلى استكشاف الفرص ومواجهة التهديدات المحتملة التي قد تعيق التقدم.
لتحقيق هذه الأهداف العامة، يجب ترجمتها إلى أهداف قصيرة المدى ضمن الخطط السنوية، بحيث تُصبح قابلة للتنفيذ والتقييم.
علاوة على ذلك، من الضروري أن تتضمن الاستراتيجيةُ قيمَ المؤسسة ومبادئها الأساسية، إلى جانب السياسات التنظيمية التي تُوجه العمل اليومي وتعزز الانسجام بين مختلف مستويات الإدارة والفرق العاملة.
* المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة موقع وصلة للاقتصاد والأعمال