شهدت نسبة اندماج المرأة الفلسطينية في سوق العمل بالقدس ارتفاعًا ملحوظًا، حيث أصبحت تشكل 26% من إجمالي العاملين الفلسطينيين في المدينة، مع استمرار هذا الاتجاه التصاعدي في إسرائيل عمومًا. ومع ذلك، لا تزال مشاركة النساء الفلسطينيات أقل بكثير مقارنة بالرجال.
وفقًا للإحصائيات الإسرائيلية الرسمية الأخيرة، فإن نسبة النساء الفلسطينيات المشاركات في سوق العمل في القدس الشرقية لا تتجاوز 13%، وهو معدل منخفض جدًا مقارنة بمشاركة النساء في إسرائيل بشكل عام، وحتى مقارنة بنساء المجتمع العربي في إسرائيل. للمقارنة، تصل نسبة مشاركة النساء اليهوديات في إسرائيل إلى أكثر من 60%.
لرصد هذه ظاهرة تدني مشاركة المرأة المقدسية في سوق العمل، والاطلاع على أبرز أسبابها، حاورنا في وصلة مجموعة من الخبيرات المهنيات، اللواتي يعملن في عدد من مراكز التشغيل وجمعيات المجتمع المدني في القدس.
الفجوة في معدلات التوظيف
أوضحت راوية العسلي، مديرة مجال العمل الجماهيري في مركز ريان للتشغيل والتوجيه المهني في القدس، أن أعلى نسبة توظيف في سوق العمل الإسرائيلي تعود إلى الرجال اليهود غير الأرثوذكس، يليهم الرجال الفلسطينيون، ثم النساء اليهوديات، وأخيرًا النساء المقدسيات اللاتي يشغلن أدنى مرتبة في هذا السلم الوظيفي.
وأشارت العسلي إلى أن الفجوة بين الجنسين في سوق العمل تعود بشكل كبير إلى الاختلافات في اختيار مجالات الدراسة بين الرجال والنساء. تركز النساء في إسرائيل، بما في ذلك المقدسيات، على قطاعات محددة مثل التعليم، الصحة، الرعاية الاجتماعية، والخدمات المصرفية والمنزلية، بينما تكون مشاركتهن محدودة في القطاعات ذات الأجور المرتفعة مثل النقل، الاتصالات، الكهرباء، والمياه. يعود ذلك إلى قلة المعرفة التكنولوجية وانخفاض استخدام الموارد الرقمية بين النساء مقارنة بالرجال، مما يحد من فرصهن في هذه المجالات.
أشارت راوية العسلي إلى وجود برامج وتخصصات ممولة بالكامل من وزارة العمل تهدف إلى تمكين النساء المقدسيات ودعمهن لدخول سوق العمل. تشمل هذه التخصصات مجالات مثل الطب البديل، خدمة الزبائن، لغة الإشارة، مهارات الطبخ، والبرمجة، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصائص الفريدة لسكان القدس الشرقية واحتياجاتهم. وأوضحت العسلي أن النساء المشاركات في هذه البرامج يحصلن على شهادات معتمدة تؤهلهن للانخراط في سوق العمل، مع التركيز على دعم الباحثات عن عمل أو اللواتي يتقاضين أجورًا أقل من الحد الأدنى.
وأضافت العسلي أن الميزانيات المخصصة لبرامج دعم النساء غالبًا لا تستنفذ بسهولة، مقارنة بالميزانيات المخصصة للرجال التي تُستهلك بسرعة. وفسرت ذلك بوجود مجتمع أبوي محافظ يحد من مشاركة المرأة في سوق العمل، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة الزواج المبكر بين الفتيات. وللتغلب على هذه العوائق، يعمل المركز على تنظيم ورشات توعوية في المدارس، بهدف تعزيز الوعي بأهمية الانخراط في سوق العمل ودعم المرأة لتحقيق استقلالها الاقتصادي.
اللغة العبرية… المعيق الأكبر
أوضحت زهية خويص، مديرة المشاريع في جمعية “لسان” لتعزيز المساواة الاجتماعية في مدينة القدس، أن غالبية النساء الفلسطينيات في القدس الشرقية يواجهن صعوبة في إتقان اللغة العبرية، وهو ما يشكل عقبة رئيسية أمام انخراطهن في سوق العمل الإسرائيلي. وأشارت إلى أن نقص المهارات اللغوية يمنع أعدادًا كبيرة من النساء من تحقيق الاستفادة من الفرص الوظيفية المتاحة.
كما عبرت خويص عن تنوع الدوافع التي تحث النساء على تعلم اللغة العبرية. إذ تهدف بعض المقدسيات إلى الانضمام لسوق العمل الإسرائيلي، خاصةً أن العديد منهن يحملن شهادات أكاديمية، إذ أكّد استبيان أجرته الجمعية بأن 48% من النساء اللواتين درسن العبرية تحسّنت فرصهنّ في أماكن العمل، و15% أوضحن أن اللغة كانت العامل الأساسي في حصولهن على وظيفة.
من جهة أخرى، ترى بعض النساء في تعلم العبرية وسيلة لإكمال تعليمهن الجامعي في المؤسسات الإسرائيلية، فيما تعتبر أخريات أن اللغة تتيح لهن فتح مشاريع خاصة وتحسين أوضاعهن الاقتصادية. وهناك من يهدفن لاكتساب اللغة للتغلب على صعوبات التعامل مع البيروقراطية الإسرائيلية أو للحصول على الخدمات الصحية، حيث تُعد العبرية وسيلة أساسية للتواصل اليومي.
وأشارت خويص إلى أن مستوى القراءة والكتابة باللغة العبرية في العديد من أحياء القدس الشرقية لا يزال منخفضًا، حيث أظهرت الإحصائيات أن أكثر من 60% من النساء يعانين من ضعف في المعرفة الشفهية بالعبرية، مقارنة بـ50% من الرجال في هذه المناطق. هذا النقص في المهارات اللغوية يعكس فجوة تعليمية ومعرفية تؤثر بشكل مباشر على فرص النساء المقدسيات في سوق العمل والحياة العامة.
“وظائف بسيطة لا تتناسب مع مهاراتي”
ميار ألجاوي، مقيمة في القدس الشرقية، بدأت رحلتها في البحث عن عمل بسيرة ذاتية مكتوبة باللغة العربية، إلا أن نقص إلمامها باللغة العبرية شكّل عائقًا كبيرًا أمامها. تروي ميار: “لم أكن أعرف سوى القواعد الأساسية للغة العبرية، ولم أمتلك مهارة التحدث بها. نتيجة لذلك، كانت أغلب الوظائف التي قدّمت لها بسيطة ولا تتناسب مع المهارات التي أمتلكها. معظم الوظائف تتطلب اللغة العبرية كشرط أساسي، ولم أكن أعرف كيفية صياغة سيرتي الذاتية باللغة العبرية بما يتماشى مع متطلبات هذه الوظائف”.
تتحدث ميار عن تجربتها قائلة: “قدمت لوظيفة معلمة للغة العربية في إحدى المدارس، لكنني لم أنجح في الحصول عليها بسبب افتقاري لإتقان اللغة العبرية”.
وعن كيفية تحسين مستواها في اللغة العبرية وتطوير مهاراتها، تقول ميار: “سمعت عن مجموعة تُسمى ‘محادثة مقدسية’، وهي مبادرة تجمع بين نساء فلسطينيات ويهوديات لتعلم اللغتين العبرية والعربية معًا في القدس. انضممت لهذه المجموعة واستمررت لمدة خمس سنوات، طورت خلالها لغتي العبرية بشكل كبير. بعد ذلك، تقدمت لوظيفة معلمة في مدرسة يهودية وتم قبولي”.
هذا النجاح ألهم ميار لاتخاذ خطوة أخرى نحو تمكين النساء الأخريات من التغلب على نفس العقبات التي واجهتها، حيث تقول: “قررت إنشاء مركز ‘العندليب’ لتعليم اللغة العبرية، مع التركيز على المتطلبات التي يحتاجها سوق العمل. هدفي هو مساعدة النساء على تجاوز التحديات اللغوية والاقتصادية التي عانيت منها”.
عبء المسؤوليات الأسرية والتسرب من التعليم
لا تقتصر المعيقات أمام المرأة المقدسية على ما سبق، إذ أفادت أفنان شلبي، مركزة النساء في نقابة “معًا” العمالية، بأن العديد من النساء المقدسيات يعانين من البطالة، خاصة ربات البيوت والأمهات. يعزى ذلك إلى خوفهن من عدم تحقيق التوازن بين مسؤولياتهن الأسرية ودورهن كعاملات خارج المنزل.
وأوضحت شلبي أن الأمهات، خاصةً اللواتي لديهن أطفال صغار، يفضلن العمل في وظائف قريبة من منازلهن حتى لو كانت بأجور أقل، وذلك لتلبية متطلبات الأسرة. كما أن التزاماتهن المنزلية تجعل إنتاجيتهن في العمل منخفضة نسبيًا، الأمر الذي يعرضهن للتهميش أو الاستبعاد من سوق العمل.
وتعد تكاليف الحضانات وقلتها من أبرز العوائق التي تواجه النساء في القدس الشرقية، فالحد الأدنى لأقساط الحضانات يبلغ 886 شيكلًا شهريًا للطفل، و1071 شيكلًا للرضيع، وهو ما يفوق قدرة العديد من العائلات على التحمل. هذه التكاليف تجعل العمل غير مجدٍ اقتصاديًا لكثير من الأمهات، خصوصًا في ظل غياب الدعم الحكومي المناسب.
كما تعاني القدس الشرقية من معدلات تسرب مرتفعة في نظام التعليم، حيث لم يكمل 35% من النساء هناك 12 عامًا من الدراسة. هذا الواقع يقلل بشكل كبير من فرص التأهيل المهني والانخراط في سوق العمل، إذ تقدر فرص النساء غير المتعلمات في الحصول على وظيفة بواحدة لكل عشر نساء.
يبرز من هذا الواقع أهمية تحسين البنية التحتية لرعاية الأطفال في القدس الشرقية، وزيادة الدعم الحكومي للأسر. بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز التعليم والتأهيل المهني للنساء المقدسيات، وتوفير مراكز تشغيل النساء، إضافة إلى بيئات عمل آمنة تتيح لهن تحقيق التوازن بين حياتهن الأسرية والمهنية.
مقالات ذات صلة: سامية أبو علقم من مرافقة لطلاب المدارس إلى سائقة باصات في القدس