
في “منطق” دونالد ترمب التجاري، كل شيء قابل للشراء. سواءً أكان ذلك أرواح الناس أو مستقبلهم أو قضيتهم أو أراضيهم. ما عليك إلّا أن تدفع مليارات من الدولارات الخضراء، وسوف تحصل على كندا وغرينلاند وبنما… وغزة. سوف تشتري من الناس أراضيهم وبيوتهم المهدمة، وتنقلهم إلى صحراء سيناء أو بادية الأردن، وهكذا تحلّ ببساطة قضيةً عجز كل الرؤساء قبلك عن حلّها.
في لقائه في البيت الأبيض مع بنيامين نتنياهو، والذي يشبه لقاء إمبراطور رومانيّ مع أحد الملوك التابعين له في أرجاء الإمبراطورية لاقتسام الغنائم بعد الحرب، قال الرئيس الأمريكي: “إنّ الولايات المتحدة ستسيطر على غزة، وتمتلكها”، وأضاف: “سنسوي الموقع بالأرض ونوجد تنمية اقتصادية”، مؤكدًا أنّ بلاده تتطلع إلى امتلاك طويل الأمد لقطاع غزة، من شأنه أن يخلق “آلاف الوظائف”.
يا لها من فكرة عبقرية، وإذا اعترضت الأردن أو مصر على استقبال أهل غزة المقدر عددهم بأكثر من مليوني شخص، لما لذلك من تأثير على أمنهما القومي، من الممكن أن يعجّل ترمب بشراء غرينلاند بخمسين مليار دولار، كما يُقدّر سعرها، وهي أكبر جزيرة في العالم بمساحة تتجاوز 2 مليون كم مربع وعدد سكان لا يزيد عن 57 ألف نسمة، وينقل أهل غزة إلى هناك على متن حاملات الطائرات الأمريكية التي أرسلها سلفه إلى المنطقة بعد السابع من أكتوبر. وهكذا يضرب حمامتين بحجرٍ واحد: يخلق نهضة اقتصادية ساخنة في صقيع غرينلاند، ويضمن حق عودة سموتريتش وبن غفير إلى غزة.
وعند سؤاله عن الاحتلال العسكري الأمريكي لقطاع غزة، أجاب ترمب: “سنفعل ما هو ضروري. إذا كان إرسال قوات أمريكية ضروريًا، فسنفعل ذلك. سنستولي على هذه القطعة. سنطورها، ونوفر الآلاف والآلاف من الوظائف، وسيمكن للشرق الأوسط بأكمله أن يفخر به”. إذن، سيتحول الوجود الأمريكي الحالي المتمثّل في شركات أمنية خاصة تفتش العائدين إلى شمال القطاع عبر نتساريم، وتدفع قطر رواتب عناصرها التي تتجاوز 1000 دولار يوميًا، إلى وجود أمريكي دائمٍ للبنتاغون والشركات الأمريكية العابرة، كالصواريخ، للقارات.
بالنسبة لترمب، فإنّ غزة ليست سوى “موقعٍ مثير للاهتمام” بلا شعب، أو “منطقة بموقع مميز على البحر ذات مناخٍ رائع” يشبه أجواء فلوريدا، التي يمتلك الرئيس فيها منتجعًا جميلًا. ولم لا، يمكن أن يشتري الرئيس منتجعًا في ريفييرا غزة، بعد أن تبنيها شركات عقارات أمريكية وإسرائيلية وإماراتية. ومن الممكن أيضًا أن يبني الرئيس برجه التجاري الشهير Trump Tower في حي الرمال الراقي في غزة.

“أتصور أن يعيش هناك شعوب العالم، شعوب العالم”، أجاب ترمب بعد سؤاله عمّن سيعيش في غزة مستقبلًا. وهكذا ستصبح غزة أشبه بـ”جليل الأمم”، تجمع العديد من الجنسيات حول العالم، تحت راية خضراء (راية الدولار لا حماس)، أو جنّة عدنٍ تنطق بلغة المال، بعد أن “يتبلبل” في الأصقاع أهلها.
لاقت خطة ترمب الجديدة ردات فعل منددة حول العالم، فقال وزير الخارجية البريطاني “إنّه يجب أن يكون للفلسطينيين مستقبل في وطنهم”. ورفضت فرنسا التهجير القسري لسكان غزة، الذي يشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي، حسب تعبيرها. واعترضت الصين، مؤكدة أن الحكم الفلسطيني للفلسطينيين هو المبدأ الأساسي للحكم في غزة. ونددت منظمة العفو الدولية، قائلةً إنّ “إبعاد جميع الفلسطينيين عن غزة يعادل تدميرهم بصفتهم شعباً. غزة هي موطنهم”، ومشددة على أنّ “الموت والدمار الذي حل بغزة هو نتاج قيام حكومة إسرائيل بقتل المدنيين بالآلاف، وغالباً بالقنابل الأميركية”. وقالت السعودية بأنّها لن تطبع مع إسرائيل إلا عند قيام دولة فلسطينية.
في المقابل، رحبت الأوساط الإسرائيلية بالقرار، إذ قال الوزير السابق بن غفير إنّ الحل الوحيد هو تشجيع سكان غزة، وقال للذين سخروا منه في السابق عندما اقترح خطة مشابهة، “ألم أقل لكم مرارًا وتكرارًا خلال الحرب أنّ هذا هو الحل الوحيد!”. وكان ناقصًا أن يقول: لو كنتُ مليارديرًا مثل ترمب لأخذتم خطتي العبقرية على محمل الجد. وبارك وزير المالية والضفة الغربية سموتريتش اللقاء بآية توراتية على حسابه بإكس. ورحب كذلك ليبرمان وبني غانتس ورئيس “المعارضة” يئير لابيد.
لكن، يبدو أن ترمب ليس تاجرًا شاطرًا كما نعتقد، أليست خطته هذه هي نسخة أكثر رداءة من “صفقة القرن”. تلك الصفقة التي طرحها زوج ابنته، والتي دفع فيها للفلسطينيين أكثر مقابل أن يبيعوا بلادهم وقضيتهم، دون أن يوافقوا. فلماذا يُصرّ “التاجر الشاطر” على تجريب المجرّب، على نفس الصفقة الخاسرة مرتين؟ أيعقل أن تنجح مليارات ترمب بما فشلت فيه جنرالات إسرائيل على مدار أشهر طويلة في شمال غزة، خصوصًا بعد أن عاد سكان تلك المناطق بمئات الآلاف على الفور بعد وقف إطلاق النار؟
مقالات ذات صلة: رواتب تتجاوز 1000 دولار يوميًا تدفعها قطر… الشركة الأمريكية التي تُفتّش العائدين إلى شمال غزة