ياسمين (32، اسم مستعار)، عازبة وحاصلة على درجة الماجستير في الهندسة الطبية الحيوية، كانت تعيش حتى وقت قريب في الناصرة وتعمل في شركة هايتك. لكن مع بداية الحرب، تغيرت طريقة التعامل معها في مكان عملها، وأصبحت الأجواء في المكتب مختلفة تمامًا. تقول: “أشخاص كنت أعتقد أنني أستطيع الاعتماد عليهم بدأوا يتعاملون معي بشكل مختلف. أصبح النظر إلى العرب كإرهابيين أمرًا معتادًا. شعرت أنني تحت المراقبة طوال الوقت”.
هناك لحظة لن تنساها ياسمين. “خلال اجتماع أسبوعي للفريق، قال أحدهم شيئًا عن ‘ضرورة إعادة الدولة إلى أيدي اليهود فقط’. لم أصدق أنني أسمع ذلك في مكان عمل يدّعي تبني التنوع والدمج. وعندما حاولت الرد، قاطعني المدير وقال: هذا ليس الوقت للنقاشات السياسية. عندها أدركت أنه في إسرائيل، لا يهم مدى كفاءتك، فهويتك العربية ستظل دائمًا عائقًا”.
هذه المشاعر دفعتها إلى اتخاذ قرار مصيري بالرحيل إلى نيويورك. “ساعدني أصدقائي في العثور على عمل، وكان التغيير منعشًا. شعرت أنني حرة لأكون على طبيعتي، دون الخوف من أن يتم الحكم عليّ سلبًا بسبب قوميّتي، بل فقط بناءً على مهاراتي، وهذا أعاد إليّ الأمل”.
أمل (52)، أمٌّ وحيدة لتوأم وناشطة اجتماعية كانت تعيش سابقًا في القدس. عملت كمُركّزة في وزارة التعليم، ولم تفكر يومًا في الهجرة. لكن بعد السابع من أكتوبر، تغير كل شيء. خلال إحدى صفارات الإنذار، لجأت إلى الملجأ في منزلها مع أطفالها، وهناك سمعت إحدى الجارات تقول لجارة أخرى: “ليس لدي أي تعاطف مع العرب، يجب القضاء عليهم!”. تقول أمل: “في تلك اللحظة، أدركت؛ لم يعد لي مكان هنا”.
“تحدثت مع الزملاء الذين أعمل معهم، وأخبرتهم بما حدث، فردّوا عليّ بكل صراحة وبرود: “لا أحد يتعاطف مع العرب”. أصبح لديهم شرعية للتعبير عن كراهيتهم. بدل النضال من أجل التغيير قررت أن أختار مستقبلًا آمنًا لأطفالي. أدركت أنه لم يعد لدي حتى الحق في مشاركة قصة أو بوست يُظهر تعاطفًا مع المدنيين في غزة. أدركت أيضا أنني لن أتمكن من تغيير اليهود الذين يفكرون بهذه الطريقة”.
قررت أمل الانتقال مع عائلتها إلى المانيا. “عملت طوال حياتي، وغادرت البلاد مع جميع مدخراتي وتعويضاتي ومعاشي التقاعدي كي أبدأ من الصفر في برلين. كان الانتقال سلسًا. الشهر الأول كان صعبًا، ثم بدأنا نجد طريقنا. الأطفال وجدوا أصدقاء وتأقلموا في النظام التعليمي، أما أنا، فأصبح عندي وقت لاستيعاب مشاعري. في البلاد كنت مستقرة جدًا، وكانت لي مكانتي ومركزي”.
وفقًا للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، فإنه في بداية الحرب، قال 59% فقط من العرب في إسرائيل (مقارنة بـ80% من اليهود) إنهم يفضلون البقاء في البلاد، وهو المعدل الأدنى الذي سُجّل خلال العقد الأخير. ورغم ارتفاع النسبة إلى 70% في أكتوبر 2024 (وهي نسبة مماثلة بين اليهود)، إلا أنها تظل منخفضة جدًا في المجتمع العربي مقارنة بفترات أخرى، حتى تلك التي كانت متوترة أمنيًا. ففي ربيع 2021، مثلًا، اندلعت أحداث هبّة أيار في المدن المختلطة بالتزامن مع الحرب على غزة، ومع ذلك، كانت نسبة العرب في البلاد الذين فضلوا البقاء على الهجرة مرتفعة نسبيًا، حيث بلغت 81%.
الشعور بالاغتراب عن الدولة داخل المجتمع العربي، الذي ازداد بعد اندلاع الحرب، ينعكس أيضًا في نتائج بحث أجراه العام الماضي عالم النفس السياسي نمرود نير من الجامعة العبرية: 57% من العرب متشائمون بشأن مستقبل الدولة، مقارنة بـ29% فقط من اليهود. وبالمثل، 27% منهم يعتقدون أن مستقبل أبنائهم سيكون أسوأ، مقارنة بـ14% من اليهود.
“هل تتعاطف مع اللون الأخضر لحماس؟”
لينا (49 عامًا) وزوجها يوسف (50 عامًا، اسم مستعار)، يعيشان في يافا، و”يفكران في الهجرة إلى كندا”. لديهما ثلاثة أبناء أكاديميين في العشرينيات. الابنة الكبرى أنهت درجة الماجستير في علوم الحاسوب، الابن الأوسط يعمل مهندسًا، والابن الأصغر يدرس الطب. يقولان: “لطالما اعتقدنا أن إسرائيل هي المكان الذي سيحصل فيه أبناؤنا على فرص جيدة ويتمكنون من الازدهار، لكن مع مرور الوقت، تغير الوضع للأسوأ. بات الشعور بعدم الأمان أمرًا يوميًا. قرار الهجرة معقد بالنسبة لنا، لكن بعد الحرب وتدهور الأوضاع، أدركنا أن البقاء هنا لم يعد خيارًا”.
“أبناؤنا، رغم مواهبهم وتعليمهم، لا يستطيعون العثور على وظائف في الشركات الكبرى في البلاد. نشعر أن السوق مغلق أمامهم فقط بسبب هويتهم. لم يعودوا يُنظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بل باتوا يُعاملون كإرهابيين. الفرص، التي كانت نادرة أصلًا، أصبحت الآن تبدو مستحيلة”.
“منذ السابع من أكتوبر، تصاعدت المخاوف والمخاطر في أماكن العمل المختلطة، خاصة من الجانب اليهودي تجاه العرب”، يقول سامي أسعد، المدير العام السابق لجمعية “كاف-مشفيه” التي تعنى بتوظيف الأكاديميين العرب. “اليهود أصبحوا أكثر انغلاقًا على أنفسهم وأقل تقبلًا للآخر”.
مشاعر مشابهة عبّر عنها أيضًا طلاب عرب بعد نحو شهر من اندلاع الحرب. فبحسب استطلاع أجرته جمعية “كاف-مشفيه”، لم يشعر 56% منهم بالأمان عند العودة إلى الحرم الجامعي، بينما شعر 66% بأنهم يتعرضون للتمييز مقارنة بالطلاب اليهود. كما أن قرابة 40% من الطلاب العرب الذين كانت لديهم صداقات مع طلاب يهود في الحرم الجامعي أفادوا بأن هذه العلاقات تراجعت منذ بدء الحرب.
في قطاع الصحة، حيث يُقدَّر أن نحو نصف العاملين فيه هم من العرب، تصاعد التوتر بين اليهود والعرب ووصل إلى العناوين الرئيسية في الأيام التي تلت السابع من أكتوبر. تقول ليئا وفنر، المديرة العامة لنقابة الأطباء الإسرائيلية: “اليهود بدأوا ينظرون إلى العاملين في مختلف المهن الصحية ويسألونهم: هل تدينون حماس؟ أو يقولون لهم: لحظة، هل شاركت هذا البوست؟ هل وضعت إعجابًا على ذلك البوست؟ هل تتعاطف مع اللون الأخضر لحماس؟”.

وتضيف: “كانت تلك فترة شعر فيها الكثير من العاملين في المجال الطبي بقلق شديد. ونتيجة لذلك، دخل الموظفون العرب في حالة دفاعية شديدة، وفي نهاية المطاف، انغلقت كل مجموعة على نفسها. أدى ذلك إلى قطيعة وتباعد هائلين”.
41 قتيلًا منذ بداية العام
سبب آخر يدفع المواطنين العرب إلى التفكير في الهجرة هو شعورهم المتزايد بانعدام الأمان. فبحسب استطلاع أجراه نمرود نير في أكتوبر 2024، أعرب 47% من العرب في إسرائيل عن خشيتهم الكبيرة على حياتهم.
في المجتمع العربي، يرتبط الشعور بانعدام الأمن أيضًا بتصاعد معدلات الجريمة. على مدار السنوات الخمس الماضية، شهدت الجريمة في المجتمع العربي ارتفاعًا حادًا، حيث يسجل كل عام عدد قتلى أكبر من سابقه. في بداية الشهر، قُتل ستة أشخاص خلال 24 ساعة. ومنذ مطلع العام وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، قُتِل 41 شخصًا من المجتمع العربي، بينهم امرأتان، مقارنة بـ 21 قتيلًا في الفترة نفسها من العام الماضي.
وفقًا لمنظمة “مبادرات إبراهيم”، فإن 28 من القتلى عام 2025 لقوا مصرعهم بإطلاق النار، بينما كان 15 منهم تحت سن الثلاثين. كما أظهر تحليل أجرته “غرفة الطوارئ لمواجهة الجريمة والعنف” أن 85% من ملفات التحقيق في جرائم القتل خلال عام 2024 ظلت دون حل.
خلود أبو أحمد (38 عامًا) من الناصرة، ناشطة اجتماعية تعمل في جمعية الناصرة للسياحة والثقافة، تفكر أيضًا في الهجرة. بدأت مع زوجها ومجموعة من الأصدقاء البحث عن خيارات في البرتغال واليونان. وتعدد من بين الأسباب التي تدفعها لذلك تفشي الجريمة في البلدات العربية، بالإضافة إلى صعوبات اقتصادية ناجمة عما تصفه بـ”التمييز الاقتصادي”.

وتوضح قائلة: “هناك فجوات كبيرة في الفرص التعليمية والتوظيفية مقارنة بالسكان اليهود. غلاء المعيشة أصبح خارج السيطرة، وميزانيات الأمن والجيش ترتفع بشكل كبير في فترات الحروب، وذلك على حساب الميزانيات الاجتماعية وعلى حساب المجتمع العربي، الذي يعاني أصلًا من تهميش مستمر”.
نوا جهشان، المديرة العامة لمنظمة “كو إمباكت”، التي تعمل على تعزيز اندماج العرب في الاقتصاد الإسرائيلي، تؤكد أن العثور على عمل أصبح أكثر صعوبة للمواطنين العرب مقارنة بالماضي. لكنها تشير إلى أنه من غير الواضح ما إذا كان ذلك بسبب التمييز أو بسبب التباطؤ الاقتصادي العام في السوق وتضيف: “قطاع الهايتك يعاني من تباطؤ، وهناك عدد أقل من الوظائف للمبتدئين، ما يزيد المنافسة على كل فرصة عمل متاحة. لذلك، أواجه المزيد من الطلاب والأكاديميين العرب الذين يحاولون البحث عن فرص عمل ودراسة في الخارج”.
هجرة العقول ظاهرة خطيرة في أي دولة، لأن المُهاجرون عادة يُساهمون كثيرا في الاقتصاد. وفي المجتمع العربي، إذا ما حدثت موجة هجرة واسعة النطاق، فمن المرجح أن تشمل بالأساس الأفراد ذوي المهارات العالية والحاصلين على شهادات جامعية عليا، الذين يمكنهم العثور بسهولة على فرص عمل في الخارج.
تقول الدكتورة ماريان تحاوخو، مديرة معهد السياسة الاقتصادية العربية في جامعة رايخمان: “هجرة الأكاديميين العرب ليست ظاهرة جديدة، فقد بدأت قبل الحرب، لكنها تسارعت بشكل ملحوظ بعدها”.

وكما هو الحال في أي فئة سكانية، فإن الأكاديميين هم الأكثر قابلية للهجرة نظرًا لإمكانياتهم في التوظيف ومستوى دخلهم، ما يعني أنهم الفئة التي يمكن أن تساهم في دفع المجتمع العربي إلى الأمام. تحذر الدكتورة ماريان تحاوخو قائلة: “إذا لم تتحرك الحكومة لمنع هذه الهجرة، فستدفع ثمنًا باهظًا، ليس فقط اقتصاديًا، بل أيضًا اجتماعيًا. هناك حاجة إلى تغيير في النهج والسياسات المتعلقة بالتنوع والدمج، حتى في الفترات المتوترة“.
“الجميع سيستفيد من المساواة”
كان تمثيل المجتمع العربي في القطاع الخاص في إسرائيل منخفضًا حتى قبل الحرب، حيث بلغ نحو 6% فقط. أما في المناصب الإدارية العليا، فالنسبة لا تتجاوز 1% من إجمالي العاملين. وفي قطاع الهايتك الإسرائيلي، لا يشكل العرب سوى نحو 2% من إجمالي الموظفين.
جهشان توضح قائلة: “في السنوات الأخيرة، شهدنا ارتفاعًا كبيرًا في نسبة الطلاب العرب في مؤسسات التعليم العالي، وكذلك زيادة في عدد الذين يدرسون تخصصات STEM (العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، والرياضيات). ومع ذلك، فإن هذا الارتفاع لا ينعكس بشكل كافٍ في صناعة الهايتك. وفي الفترة الحالية، أصبح الأمر أكثر تعقيدًا”.
اذا اردنا أن نفهم حجم الخسارة للمجتمع المحلي يكفي أن نتعرف على الشخصيات التالية. في أربع من كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، أبل وأمازون وإنتل وإنفيديا، يشغل عرب من مواطني إسرائيل مناصب رفيعة كنواب رؤساء أو مدراء تنفيذيين. جوني سروجي في أبل، نافع بشارة في أمازون AWS، رضا مصاروة في إنتل، علي أيوب في إنفيديا العالمية.
بحسب ما ورد عن ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺘﻄﻮﻳﺮ اﻻﻗﺘﺼﺎدي ﻟﻸﻗﻠﻴﺎت في وزارة المساواة الاجتماعية: “تواصل السلطة العمل من خلال أدوات متنوعة لتشجيع عودة المُستخدمين العرب إلى سوق العمل. كما تعمل على تعزيز مبادرات لزيادة التنوع والدمج في الشركات الخاصة عبر مشروع “كو إمباكت”، الذي تبنته عشرات الشركات الخاصة، وتنضم إليه شركات جديدة كل عام.
في إطار هذا المشروع، تحصل الشركات على مرافقة في بناء خطة عمل لدمج واستيعاب الموظفين العرب، إلى جانب توفير تدريبات لمسؤولي التوظيف والموارد البشرية، ودعم تطبيق هذه الخطة. بالإضافة إلى ذلك، تُمنح حوافز حكومية لتشجيع أرباب العمل على توظيف العمال العرب”.
*يُنشر هذا التقرير بالتعاون مع موقع وصلة وموقع جلوبس وجمعية إعلام- المركز العربي للحريات الإعلامية في إطار دورة تأهيل للصحافة الاقتصادية.
مقالات ذات صلة: “لولا الشركات العالمية لما دخل العرب مجال الهايتك في إسرائيل”