لا يوجد حل لأزمة الجريمة في المجتمع العربي! أم بقي حل أخير؟

أيقون موقع وصلة Wasla
مروة صالح
خبيرة في مجال الاقتصاد
مروة صالح - خبيرة في مجال الاقتصاد

أذكر في صغري طفلين قدما مع والدتهما للعيش في حينا. وبحكم أنّهما “الجداد في الحارة” فقد كانا محط أنظار جميع أبناء الحي، إلى أن استطاعا الانخراط معنا وأصبحا من رفاق الحي، لكن لم يلغي ذلك كونهما من المستجدين. الابن الأصغر كان من عمري وقد أصبح من “الشلة”، كنا نلعب معاً في الشارع الضيق على الدراجة، نجوب الشارع ذهابًا وإيابًا طول اليوم. أما الابن الأكبر فكان يكبرني بسنتين ولم يلعب معنا، كان جدّيًا في شخصيته قليل الكلام، لكن كان يحترمه الكبار والصغار. بعد سنوات قليلة انتقلا للعيش في المدينة الكبيرة مع والدتهما ولم أسمع عنهما شيئًا قط، إلى أن تفاجأتُ اليوم بخبر مفجع عن مقتل الابن الاصغر “مجد”!

أجل، هذا هو الوضع في أحيائنا وبلداتنا العربية، “عادي جدًا” سماع خبر وفاة شباب في ربيع أعمارهم عن طريق الخطأ أو عمدًا لا يهم! عادي جدًا اغتصاب ذاكرتنا وطفولتنا وإفجاعنا بمقتل الأطفال، نعم أطفال ففي ذاكرتي “مجد” لم يكبر بعد! “مجد” ليس الشاب الوحيد الذي قُتِلَ عن طريق الخطأ في مجتمعي، فمجتمعي مشبع بالعنف والجرائم، 45 قتيل منذ مطلع العام والعدد للأسف الشديد آخذ بالازدياد. وهنا يأتي سؤال المليون: من المسؤول؟

تتضارب الآراء بين الحقد على المجتمع الذي “أصبح لا يطاق”، وبين إلقاء المسؤولية على الحكومة الفاشية، لكن حقًا، من المسؤول؟ الجواب معقد جدًا ويطول شرحه، ولحل معضلة الجريمة في المجتمع العربي يجب تحليلها بدقة من نواحي عديدة: اجتماعيًا، اقتصاديًا، سياسيًا، تاريخيًا، وكل جانب ممكن أن يكون السبب في وضع مجتمعنا.

لا أنكر اللوم على المجتمع الذي يبحث عن “المصاري السريعة” والثراء المستعجل، والمتأثّر بالكذب الذي يراه يوميًا في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح جلّ طموحه الشهرة وعيش حياة الرفاهية، لكن غلاء المعيشة خانق أيضًا، حيث تُعتبَر إسرائيل من بين الدول ذات تكاليف المعيشة الأعلى عالميًا. فبحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) حتى نهاية عام 2024، احتلت إسرائيل المرتبة الثالثة كأغلى دولة ضمن دول المنظمة، بعد سويسرا وآيسلندا.  ومنذ تولي بنيامين نتنياهو السلطة لأول مرة في عام 2009، ارتفعت تكلفة سلة الاستهلاك بنسبة 40%.

772ce885 2fe7 43b4 937d 5bdbf1100aa3
مروة صالح – خبيرة في مجال الاقتصاد

كذلك، فإنّ متوسط دخل الفرد في إسرائيل أقل بكثير من مثيله في سويسرا ودخل العامل العربي أقل منهما، فمتوسط الدخل الشهري للعامل الإسرائيلي في 2024 كان 14000 شيكل تقريبًا، أمّا العامل العربي فهو أقل 40% من هذا المبلغ. ويتسع الفارق عند الإشارة إلى النساء العربيات، إذ يتقاضين تقريبًا 60% أقل من المتوسط العام للأجور في إسرائيل.

ماذا تتوقعون، إذن، من شاب عربي في مقتبل العمر يكدح في عمله لتأسيس حياة كريمة، فيجد نفسه يكسب أقلّ من نظيره اليهوديّ دون أن يستطيع حتّى توفير لقمة العيش؟

حسنًا! غلاء المعيشة ليس على العرب فقط، فعلى الرغم من دخلهم الأقل، إلّا أنّ جميع المواطنين يعانون من غلاء المعيشة، فما الذي يدفع العرب للاقتراض من السوق السوداء والدخول في دائرة الجريمة؟ غلاء المعيشة وانخفاض دخل الفرد ليسا السبب الوحيد. يعاني المجتمع العربي، سياسيًا، من تمييز عنصري منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي. منذ البداية، كانت سياسة هذه الدولة واضحة أنّ العربي، في نظرها، هو “نوع ب” (סוג ב). صحيح، أنّ قانون القومية لم يسَن سوى عام 2018، لكن العنصرية والفوقية الصهيونية كانت منذ الأزل، ولا تزال، وستبقى…

نرى العنصرية في نواح عدة في حياتنا، فمثلًا، نسبة تشغيل العرب في القطاع العام والوزارات الحكومية المختلفة، تصل إلى 13% فقط مع أنّهم يشكلون حوالي 18% من اجمالي السكان. وإذا تعمقنا أكثر، نرى أن نسبتهم في المناصب العليا لا تتجاوز 2%-3%. كذلك، كشف تقرير حكومي إسرائيلي عام 2023 أن 32% من شكاوى التمييز العنصري جاءت من مواطنين عرب، خاصة في مجالات تقديم الخدمات والتوظيف. ناهيك عن المدن المختلطة كيافا وحيفا، حيث تبلغ نسبة الموظفين العرب في المناصب العليا أقل بكثير من نسبتهم السكانية.

وما دخل العنصرية؟ تشير الدراسات إلى أن السياسات العنصرية والتمييز المنهجي ضد الأقليات تسهم بشكل كبير في زيادة معدلات الجريمة داخل هذه الفئات. فعندما تُحرم الأقليات من حقوقها الأساسية، مثل الوصول إلى التعليم الجيد، وفرص العمل المتكافئة، والسكن اللائق، يؤدي ذلك إلى تهميشها اقتصاديًا واجتماعيًا. هذا التهميش يولّد شعورًا بالظلم والإحباط، فيدفع بعض الأفراد إلى الانخراط في أنشطة غير قانونية كوسيلة للتعبير عن استيائهم أو لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

352557116 1194167284581238 5039708043872240874 n
الجريمة المروعة التي وقعت عام 2023 في يافة الناصرة- الصورة: صفحة “هنا يافة الناصرة” على فيسبوك

لنقل إنّ العنصرية هي أحد الأسباب، فهل هذا كافي لتفشي الجريمة في المجتمع بهذه الطريقة؟ طبعا لا، للدولة دور آخر في تفشي الجريمة في المجتمع العربي وهو غياب الشرطة وتقاعسها في أداء مهامها، ففي عام 2024، بلغت نسبة فك رموز جرائم القتل في المجتمع العربي حوالي 7% فقط! بينما في المجتمع اليهودي تصل نسبة حل القضايا إلى 70%-80%. وفي نفس عام الحرب الأخيرة على غزة، قررت الحكومة تقليص 15% من ميزانية مكافحة العنف في المجتمع العربي.

أما عن تفشي السلاح، فتُشير التقارير إلى أن ما بين 400,000 و500,000 قطعة سلاح غير قانونية متداولة في المجتمع العربي، أي أن واحدًا من كل خمسة منازل فيه سلاح غير مرخص، ومصدر الأسلحة ليس سرًّا، فنحن نعرف جيدا من أين تأتي. وقد أفاد تقرير لمراقب الدولة بأن الشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك) فشلا في منع انتشار واستخدام السلاح غير المرخص في المجتمع العربي، ما فاقم نسبة الجريمة.

هناك أسباب أخرى عديدة يطول شرحها وفي الغالب قرأتم مقال مشابه من قبل لكن ما الحل؟ هل يفيد الكلام الكثير عن الأسباب في ظل انعدام الحلول؟ برأيي، وبقناعة تامة لا يوجد حل! فالدولة غير معنية بإيجاد الحلول أو حتى عند إيجادها فهي غير معنية بالمباشرة فيها بل إنها أحد الاسباب اساسًا! والمجتمع مُخدّر غير قادر على النهوض الا القليلون الذين يخرجون للمظاهرات آملين بصنع التغيير.

لكن ولكي لا نقتل الأمل وكي لا نعطي شرعية للاستسلام، ربّما يكون هناك حلٌّ واحدٌ جذريٌّ لا يزال متاحًا، أو على الأقل سيكون متاحًا عند استفاقة المجتمع من السبات! ما هو؟ الإدراك، المعرفة، التكاتف الاجتماعي والوصول إلى الاستقلال الاقتصادي. الاستقلال الاقتصادي يعني قدرة المجتمع على بناء وتطوير اقتصاده بشكل مستقل عن سياسات الدولة، وهو ليس مجرد وسيلة لتعزيز النمو، بل أداة ضغط فعالة لتحقيق مطالب سياسية، اجتماعية، واقتصادية، بما في ذلك حقنا الأساسي في العيش بأمان. فحين نتحدث عن خُمس السكان، فإن لهذه النسبة تأثيرًا اقتصاديًا قويًا يمكن تسخيره في حال تحقق التكاتف الاجتماعي. كيف؟

أولاً، بدلًا من التساؤل عن مدى تأثيرنا كأفراد، علينا أن ندرك قوتنا الجماعية، فالتأثير الحقيقي يأتي من اتخاذ خطوات جدية وجذرية على مستوى المجتمع ككل. ثانيًا، يمكننا استثمار هذه القوة من خلال حملات مقاطعة ممنهجة للمنتجات والشركات والمؤسسات التي تدعم السياسات العنصرية أو تلك التي تتجاهل المجتمع العربي اقتصاديًا، إضافة إلى مقاطعة المصالح التجارية المرتبطة بمنظمات الإجرام، مما يحد من نفوذها المالي ويقلل من تأثيرها المدمر على المجتمع. ثالثًا، بدلًا من الاعتماد على الوظائف في المؤسسات والشركات العنصرية أو المساعدات المالية من الحكومة، يمكن إنشاء صناديق استثمار وتمويل جماعي لدعم المشاريع العربية، وتشجيع العمل داخل المصالح والشركات العربية لضمان تدوير رأس المال داخل المجتمع.

بهذه الطريقة، يمكننا ممارسة ضغط فعلي على الدولة لدفعها إلى التحرك بجدية في قضايا مكافحة الجريمة وسحب السلاح من المجتمع، تمامًا كما فعل الأمريكيون من أصول أفريقية في الولايات المتحدة حين استخدموا الاستقلال الاقتصادي كأداة نضالية. فعلى سبيل المثال، بعد اعتقال روزا باركس بسبب رفضها التخلي عن مقعدها لرجل أبيض، أطلق المجتمع المحلي مقاطعة اقتصادية استمرت 381 يومًا ضد شركة الحافلات في مونتغمري، ألاباما، حيث توقف الأمريكيون من أصول أفريقية عن استخدام الحافلات واعتمدوا على وسائل نقل بديلة، ما أدى إلى خسائر اقتصادية فادحة للشركة وأجبرها في النهاية على إلغاء قوانين الفصل العنصري، كما دفع المحكمة العليا لإعلان عدم دستورية هذه الممارسات. تجربة كهذه تثبت أن القوة الاقتصادية عندما تُدار بحكمة يمكن أن تكون أحد أكثر الوسائل الفعّالة لتحقيق العدالة وتحصيل الحقوق.

* المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة موقع وصلة للاقتصاد والأعمال

مقالات مختارة