أميركا وصفقتها التجارية الشيطانية

أيقون موقع وصلة Wasla
كينيث جاكوبس
رئيس شركة Lazard
President Donald Trump with reporters Elon Musk and X AE A Xii in the White House Oval Office on February 11 2025 e1741533358660
أثناء لقاء ترمب وإيلون ماسك في المكتب الأبيض- الصورة: ويكيميديا 

في رحلة قمت بها مؤخرا إلى ألمانيا ــ حيث ألقيت كلمة عن حالة أسواق الاندماج والاستحواذ وتأثيرها على الثقة في عالم الأعمال التجارية ــ وجدت نفسي بالمصادفة أمام منزل يوهان فولفجانغ فون جوته، الكاتب الكبير الذي أنتج التفسير الأشد تأثيرا لأسطورة فاوست. كان تطورا عَـرَضيا. في تلك القصة، يساوم ساحر وكيميائي على روحه الأبدية مع الشيطان مقابل سلطة وثروات قصيرة الأجل. قد يكون من الممكن النظر إلى إعلانات التعريفة الجمركية الأسبوع الماضي على أنها صفقة أميركا الفاوستية.

كانت الثقة مهزوزة بالفعل بين الرؤساء التنفيذيين ومديري مجالس الإدارة على جانبي المحيط الأطلسي. تُعَد أسواق عمليات الدمج والاستحواذ مقياسا جيدا لرغبة الشركات في الاستثمار الطويل الأجل، وفي أول شهرين من هذا العام كانت الإعلانات هي الأدنى خلال فترة العشرين عاما الأخيرة.

ليس من الصعب معرفة السبب. فالثقة لا تنفصل عن القدرة على التنبؤ، وعلى مدار الشهر الماضي، بدأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فرض تعريفات جمركية عريضة القاعدة، وألقت بالشكوك حول الالتزامات الاقتصادية، وعطلت عمل الوكالات الفيدرالية، وأصدرت سلسلة من التصريحات المرتبطة بالسياسات والتي قد تتسبب في قلب الأحوال الجيوسياسية العالمية رأسا على عقب.

لكن المشكلة أعمق من مجرد عدم القدرة على التنبؤ. فعندما يرقى إطار صنع القرار إلى مساومات فاوستية للحصول على منافع قصيرة الأجل، فلن تدرك غالبا العواقب البعيدة الأمد المترتبة على أفعالك إلا بعد فوات الأوان.

التعريفات الجمركية مثال واضح. تعتقد إدارة ترمب أن الولايات المتحدة ستكون لها اليد العليا في أي حرب تجارية، لأن الصادرات من السلع والخدمات من منظور الاقتصاد الأميركي أقل أهمية كثيرا من حالها بالنسبة لمعظم شركائها التجاريين. وعلى هذا ففي حين أن الرسوم الجمركية ستعطل الاقتصاد الأميركي، فإنها ستُـلـحِـق الضرر أيضا بالصين أو كندا أو الاتحاد الأوروبي ــ بين أهداف أخرى ــ بدرجة أكبر كثيرا.

لكن الحروب التجارية لم تتوقف كما جرت العادة عند السلع والخدمات، بل توسعت لتشمل ضوابط رأس المال. وهنا تكمن التكلفة المستترة التي ستترتب على سياسة إدارة ترمب التجارية.

اليوم، تمتلك دول أجنبية ما يقرب من رُبع ديون الحكومة الأميركية. وهي تجمع الأموال لشراء هذه الديون ــ وبالتالي تمويل عجز ميزانية أميركا المزمن والتعويض عن معدل الادخار المنخفض لديها ــ جزئيا عن طريق إدارة الفوائض التجارية مع الولايات المتحدة، والتي تمكنها من تكديس احتياطيات دولارية. وهي غير ملزمة بأي حال من الأحوال باستثمار عائدات فوائضها التجارية في الديون الأميركية، لكنها تفعل ذلك غالبا.

ولكن ماذا لو فرض شركاء أميركا التجاريون الرئيسيون ضريبة على شراء الأوراق المالية المقومة بالدولار التي تصدرها حكومة الولايات المتحدة أو الشركات الأميركية؟ سيتبخر مصدر بالغ الأهمية لتمويل مزادات الخزانة، وترتفع تكاليف الاقتراض التي تتحملها الحكومة الأميركية. ومع تدفق مزيد من رؤوس الأموال المحلية إلى مزادات الخزانة، سيؤدي ذلك إلى مزاحمة الاستثمار في قطاعات أخرى، واتساع الفوارق في أسعار الفائدة، وارتفاع تكلفة رأس المال. سوف ترتفع أيضا أسعار الفائدة على الرهن العقاري، وأسعار الفائدة على بطاقات الائتمان، وتكاليف الاقتراض التي تتحملها الشركات، فيؤدي هذا إلى رياح معاكسة قوية في السوق والاقتصاد. الواقع أن مجرد التهديد بفرض مثل هذه الضريبة من شأنه أن يؤثر على عائدات السندات الأميركية. ليس من الصعب أن نتخيل استراتيجيات أكثر دهاء في مجال الاحتياطي الدولاري الأجنبي تحقق النتيجة ذاتها.

قد يزعم بعض المراقين أنه من غير المرجح أن يتخذ شركاء أميركا التجاريون مثل هذه الخطوة، لأنها ستنطوي أيضا تكاليف باهظة على جانبهم، من المكاسب المفقودة من احتياطياتهم الدولارية إلى مخاطر أعلى ناجمة عن تحويل الاستثمارات إلى اقتصادات أخرى. لكن التكاليف التي ستتحملها الولايات المتحدة ستكون أكبر كثيرا، وسوف تنشأ بسرعة أكبر كثيرا. الواقع أن تحويل الاستثمارات المالية أسهل كثيرا من إقامة علاقات تجارية جديدة.

حتى لو أفضت الضرائب أو غيرها من السياسات المثبطة لعمليات شراء الأوراق المالية الأميركية إلى نوع من “الدمار المتبادل المؤكد”، فقد يقرر شركاء أميركا التجاريون أن الأمر يستحق العناء، خاصة وأن الخيارات الأخرى المتاحة لهم للتصدي للرسوم الجمركية بفعالية قليلة. كلما ازداد الاتجاه إلى توظيف التجارة كسلاح، ازدادت شِدّة إغراء استخدام هذه الأداة و”اللجوء إلى أشد الأسلحة فتكا”. من المؤكد أن هذه السياسة جذّابة: ستكون عبارة “إذا فرضت الولايات المتحدة الأميركية ضرائب على بضائعنا، فسنفرض ضرائب على ديونها” صرخة حشد مقنعة من منظور قائد اقتصاد يعاني من وطأة الرسوم الجمركية الأميركية.

من الواضح أن إدارة ترمب تعشق فكرة استخدام الرسوم الجمركية لانتزاع تنازلات من شركاء أميركا التجاريين. لكن الصفقة التي يبدو أن الإدارة مستعدة لإبرامها لخدمة أهدافها القصيرة الأجل تخلق مخاطر هائلة تهدد الاقتصاد الأميركي ذاته.

 ترجمة: إبراهيم محمد علي      

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، يُنشَر بإذن خاص في وصلة.

مقالات مختارة